التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
المتوكل على الله بن الأفطس، مقال بقلم د. راغب السرجاني، يتناول حياة المتوكل ملك بطليوس، ويبان شجاعته وأدبه بين ملوك الطوائف في الأندلس
المنصور يحيى بن الأفطس
تُوُفِّيَ المظفر بن الأفطس سنة 460هـ، وخلفه ابناه يحيى وعمر، أما يحيى فخلف أباه ومَلَك بَطَلْيُوس وأعمالها سنة 460هـ، وتلقَّب بالمنصور، وكان أخوه عمر بيَابرَة (Evora) (بلدة في جنوب البرتغال حاليًا) حاكمًا عليه وما إليها من كور وبلدات، وما كاد المنصور يحيى لينعم بمُلْكِ أبيه ومملكته الواسعة، حتى ثار عليه أخوه عمر حاكم يَابرَة، واشتدَّ النزاع بينهما.
المتوكل على الله بن الأفطس
بلغ الصراع بين الأخوين عمر ويحيى أشدَّه سنة (461هـ=1068م)، وكانت تلك الفتنة فرصة لألفونسو بن فرناندو ملك قشتالة ليشنَّ هجومه على بلاد المسلمين، وينتزع أموالهم وديارهم، واشتعلت الحرب الأهلية بمملكة بَطَلْيُوس وأصبحت على أشدِّها، وتفاقم الأمر فالتجأ عمر إلى المعتمد بن عباد صاحب إِشْبِيلِيَة، ومال أخوه يحيى المنصور إلى المأمون بن ذي النون صاحب طُلَيْطِلَة، وما زال الأمر سجالاً، وكادت نار الفتنة تأكل كل شيء، إلا أن الله وقى المسلمين شرها بموت يحيى المنصور فجأة سنة (461هـ=1068م)، وانفرد عمر بالأمر كله دون منازع. ودخل بَطَلْيُوس وجعل ابنه العباس على يَابرَة، وتلقَّب بالمتوكل على الله[1].
كان المتوكِّل عالي القدر، مشهورًا بالفضل، مثلاً في الجلالة والسرور، من أهل الرأي والحزم والبلاغة، وكانت مدينة بَطَلْيُوس في مُدَّته دار أدب وشعر، ونحوٍ وعلمٍ[2].
المتوكل بن الأفطس .. الشاعر الأديب
ولم تكن شهرة المتوكل بن الأفطس شهرةَ سياسةٍ أو دهاء، أو حروب وشجاعة وإغارة، وإنما كانت شهرته شهرة أديب وشاعر وبليغ؛ فقد جمع –رحمه الله- فوق شجاعته علمًا وأدبًا وبلاغة؛ فكان المتوكل بن الأفطس في حضرة بَطَلْيُوس كالمعتمد بن عباد في حضرة إِشْبِيلِيَة، فكم أُحْيِيَت الآمال بحضرتهما، وشُدَّت الرحالُ إلى ساحتهما[3].
كما وصفه المراكشي بعد مدحه لأبيه المظفر بقوله: وكان لابنه المتوكل قدم راسخة في صناعة النظم والنثر مع شجاعة مفرطة وفروسية تامَّة، وكان لا يُغِبُّ[4] الغزو، ولا يشغله عنه شيء[5].
وقد نَقَلَتْ لنا كُتب التاريخ والتراجم جملة من أشعاره وأخباره، تنمُّ على سعة علم المتوكل بن الأفطس وثقافته وقوَّة بلاغته شعرًا ونثرًا؛ وتتجلى فيها الرُّوح الدينية التي كانت ملازمة له وظاهرة في أقواله وأفعاله، وأَمَّا عن نثره –رحمه الله- فهو أشفُّ من شعره، وإنَّه لطَبَقة تتقاصر عنها أفذاذ الكُتَّاب، ونهاية من نهاية الآداب[6].
المتوكل بن الأفطس في طليطلة
ودولة المتوكل بن الأفطس لم يَعْلُ ذِكْرُها بين ملوك الطوائف بالعلم والثقافة فقط، بل كذلك بانتشار العدل والمساواة بين الناس، وإيثاره الشريعة وتقديمه للعلماء، أمَّا عن الجانب السياسي من حياة المتوكل بن الأفطس فلعلَّ أشهر الأحداث السياسية في عهده دخوله طُلَيْطِلَة سنة (472هـ=1079م)، وذلك بعد هروب حاكمها القادر بالله يحيى بن ذي النون إثر ثورة عليه، وظلَّ المتوكل حاكمًا على طُلَيْطِلَة يُدَبِّرُ أمرها وشئونها، ثم خرج منها بعودة القادر بالله مرَّة أخرى مستعينًا بالنصارى، وقد عاد المتوكل إلى بَطَلْيُوس بعد أن حصل على أموال وذخائر ابن ذي النون، بيد أن طُلَيْطِلَة لم تنعم كثيرًا في يد القادر بالله؛ إذ سقطت طُلَيْطِلَة في يد النصارى سنة (487هـ=1085م)، على نحو ما سنُفَصِّله في موضعه إن شاء الله.
وبعد سقوط طُلَيْطِلَة بدأ ألفونسو ملك قشتالة يُعِدُّ عُدَّته للقضاء على ملوك الطوائف واحدًا إثر آخر، وهنا لاح في الأُفق الخطر، وعلى الفور تحرَّكت النخوة والغَيْرة على الدين؛ فانتدب المتوكل قاضيه أبا الوليد الباجي ليطوف بملوك الطوائف؛ يدعوهم إلى الوحدة ولَمِّ الشعث ومدافعة العدوِّ، ولما لم يستنصره أحدٌ انتهى به الأمر إلى ذلك القرار الخطير، الذي شاء القدر أن يكون نقطة تحوُّل في حياة الأندلس وفي تاريخها، ونعني استدعاء المرابطين[7]، على نحو ما سنُفَصِّلُه في المشهد الصليبي وعلاقته بملوك الطوائف، إن شاء الله.
محنة بني الأفطس
وقد دامت أيامُ المتوكل بن الأفطس إلى أن تغلَّب المرابطون على الأندلس، فبعد أن حاصر سير بن أبي بكر إِشْبِيلِيَة وأسقطها (484هـ=1091م)، قام المتوكل بن الأفطس بما لم يكن متخيلاً من مثله؛ لقد راسل ألفونسو السادس، ومكَّنه من لَشْبُونَة وشَنْتَرِين وشَنْتَرَة؛ وذلك ليستعين به على المرابطين، فلما رأى الناسُ منه ذلك انحرفوا عنه، فلما كانت أوائل سنة (488هـ=1059م) راسلوا سير بن أبي بكر قائد المرابطين، فدخل بَطَلْيُوس وحاصرها، واعتصم المتوكل ومَنْ معه بقَلعة بَطَلْيُوس لمناعتها، ولم يتمكَّن ألفونسو من معاونة حليفه المسلم المتوكل، وقد استطاع المرابطون دخول بَطَلْيُوس بسهولة، وأعملوا فيها السيف والقوَّة، وقبض سير بن أبي بكر على المتوكل وعلى ابنيه العباس والفضل، وأُخِذَ بهم إلى إِشْبِيلِيَة، وعلى مقربة منها قيل له: تأهَّب للموت. فسأل أن يُقَدَّم ابناه، فقدَّمُوهما قبله رغبة منه أن يحتسبهما عند الله ولينال أجرهما، فقُدِّمَا عليه فقتلا، وقام بعدهما كي يُصَلِّيَ ركعتين فطعنوه بالرماح؛ وقد اختلط كلامه في صلاته، حتى فاضت نفسه وغربت شمسه[8].
وكان للمتوكل ابن اسمه المنصور بعث به إلى حصن منتانجش على مقربة من حدود قشتالة؛ ليمتنع فيه، فلمَّا علم بما جرى القدر به في أبيه وإخوته، سار بأهله إلى ملك قشتالة ليحتمي به، وأقام بأرضه، وقيل بأنه اعتنق النصرانية[9].
وهكذا التاريخ يُعَلِّمُنَا.. وهكذا انتهت محنة بني الأفطس.. وهكذا انتهت مأساة المتوكل على الله.. وهكذا تمَّت للمرابطين السيطرة على غرب الأندلس.. وهكذا دفع المتوكل بن الأفطس ثمن موالاته للنصارى من دون المؤمنين، وتلك زلَّة لم يغفرها له التاريخ، مع حُسن سيرته وشيوع عدله وعلمه.. ولكنها الدنيا وشهوة السلطان، وصدق الله إذ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51].
[1] ابن بسام: الذخيرة 4/650، 651، وابن الأبار: الحلة السيراء 2/97، 98، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص184.
[4] أَغَبَّ القومَ: جاءَ يومًا وترك يومًا، وأَغَبَّ عَطاؤُه: إِذا لم يأْتنا كلَّ يوم. والمقصود: لا يترك الغزو. الجوهري: الصحاح، باب الباء فصل الغين 1/190، 191، وابن منظور: لسان العرب، مادة غبب 1/634، والمعجم الوسيط 2/642.
التعليقات
إرسال تعليقك