التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
يوسف بن عبد المؤمن بن علي، مقال د. راغب السرجاني، يتناول حياة يوسف بن عبد المؤمن وأشهر علماء الأندلس في عهده كابن العوام الإشبيلي وابن طفيل
يوسف بن عبد المؤمن بن علي (533-580هـ= 1138-1184م)
في عام (558هـ= 1163م) تُوُفِّيَ عبد المؤمن بن علي في رباط سلا في طريقه للجهاد في الأندلس، ونُقل إلى تينملل فدُفن فيها إلى جانب قبر ابن تومرت، وخلفه على الحُكم ابنه محمد، ثم خُلع لفسقه وسوء خُلقه، وولي الأمر يوسف بن عبد المؤمن بن علي، وكان يبلغ من العمر 22 عامًا، وقد كان مجاهدًا شهمًا كريمًا، إلاَّ أنه لم يكن في كفاءة أبيه القتالية[1].
وقد وصفه الزركلي في الأعلام فقال: وكان حازمًا شجاعًا، عارفًا بسياسة رعيته، له علم بالفقه، كثيرَ الميل إلى الحكمة والفلسفة، استقدم إليه بعض علماء الأقطار؛ وفي جملتهم أبو الوليد بن رشد... وهو باني مسجد إشبيلية، أتمَّه سنة (567هـ)، وإليه تُنسب الدنانير (اليوسفية) في المغرب، وكانت علامته في المكاتبات وعلامة مَنْ بعده: «الحمد لله وحده»[2].
وقد ظلَّ يوسف بن عبد المؤمن بن علي يحكم دولة الموحدين اثنين وعشرين عامًا مُتَّصلة، منذ سنة (558هـ= 1163م) وحتى سنة (580هـ= 1185م)، وقد نَظَّم الأمور وأحكمها في كل بلاد الأندلس وبلاد المغرب العربي، وكانت له أعمال جهادية ضخمة ضدَّ النصارى، لكنه كان يعيبه شيء خطير؛ وهو أنه كان متفرِّد الرأي لا يأخذ بالشورى، وهذا -بالطبع- كان من تعليم وتربية أبيه عبد المؤمن بن علي صاحب محمد بن تومرت كما ذكرنا.
وقد مات يوسف بن عبد المؤمن بن علي وهو في جهاد الصليبيين عند مدينة شنترين بغرب الأندلس نتيجة خطأ إداري قاتل، يرويه الذهبي هكذا: «وفي سنة 579هـ تجهَّز للغزو، واستنفر أهل السهل والجبل والعرب، فعبر بهم الأندلس فنزل إشبيلية، ثم قصد مدينة شنترين – أعادها الله إلى المسلمين - وهي بغرب الأندلس، أخذها ابن الريق -لعنه الله- فنازلها أبو يعقوب وضايقها، وقطع أشجارها، وحاصرها مدَّة، ثم خاف المسلمون البرد وزيادة النهر، فأشاروا على أبي يعقوب بالرجوع فوافقهم، وقال: غدًا نرحل. فكان أوَّل مَنْ قوَّض خباءَه أبو الحسن علي ابن القاضي عبد الله المالقيّ، وكان خطيبهم، فلمَّا رآه الناس قوَّضوا أخبيتهم ثقةً به لمكانه، فعبر تلك العشيَّة أكثرُ العسكر النهر، وتقدَّموا خوف الزحام، وبات الناس يعبرون الليل كلَّه، وأبو يعقوب لا علم له بذلك، فلما رأى الروم عبور العساكر، وأخبرهم عيونهم بالأمر، انتهزوا الفرصة وخرجوا وحملوا على الناس، فانهزموا أمامهم حتى بلغوا إلى مخيَّم أبي يعقوب، فقُتِلَ على باب المخيَّم خَلْق من أعيان الجند، وخُلِصَ إلى أمير المؤمنين، فطُعن تحت سُرَّته طعنة مات منها بعد أيَّام يسيرة، وتدارك الناس، فانهزم الروم إلى البلد، وقد قضوا ما قضوا، وعبر الموحِّدون بأبي يعقوب جريحًا في محفَّة... ولم يسيروا بأبي يعقوب إلاَّ ليلتين أو ثلاثًا حتى مات»[3].
علماء الأندلس في عهده
ابن العوَّام الإشبيلي (ت580هـ=1185م)
هو أبو زكريا يحيى بن محمد بن أحمد، الشهير بابن العوام الإشبيلي، وقد عاش في فترة قلقلة في بلاد الأندلس؛ هي فترة غروب الحضارة الإسلامية عنها، وعاش في إشبيلية في منطقة الوادي الكبير المزدهر بنباتاته المتنوِّعة، والمعروف بخصبه وازدهار الفنون الزراعية بين أهله.
اهتمَّ ابن العوام بالفلاحة فأتقنها، وصنفها علمًا كاملاً، ولولا ابن العوام ومَنْ أتقن (علم الفلاحة) من علماء الأندلس المسلمين، لما وصل هذا العلم برُقِيِّه إلى أوربا بدءًا من القرن الثاني عشر الميلادي، وفي هذا العلم خاصة استفاد العلماء المسلمون وغيرهم من نتاج ابن العوام المتميز في التربة والأسمدة والحرث والسقي... وقد نُقِلَ إلى اللغات الأجنبية مبكرًا، ونتيجة لكثرة تجاربه وجُرأته عرف العرب -كما عرف الأوربيون فيما بعدُ- خواصَّ التربة، وكيفية تركيب السماد، وأساليب الغرس والزراعة والسقي.
ولابن العوام كتاب في الفلاحة عظيم الشأن، ليس لاحتوائه على فنون الزراعة فقط؛ بل لكونه تتبَّع في الأندلس نظريات جديدة في الكيمياء والطبيعة، واختصر فيه علوم القدماء في الزراعة، وما زال هذا الكتاب -برغم أهميته النظرية والتطبيقية- لم يُحَقَّقْ بعدُ تحقيقًا جيدًا[4].
وأَلَّف ابن العوام -أيضًا- رسالة في (تربية الكرم)، وقد عُثر له على مخطوط بعنوان: (عيون الحقائق وإيضاح الطرائق)، وقد توفي –رحمه الله- سنة (580هـ= 1185م)[5].
ابن طفيل (494-581هـ= 1100-1185م)
هو الفيلسوف الشهير أبو بكر محمد بن عبد الملك بن محمد بن محمد بن طفيل القيسي من أهل وادي آش جنوب الأندلس، وهو صاحب المؤلف الفلسفي الشهير: رسالة حي بن يقظان.
قال عنه لسان الدين بن الخطيب: كان عالمًا صدرًا، حكيمًا فيلسوفًا، عارفًا بالمقالات والآراء، كلفًا بالحكمة المشرقية، محقِّقًا، متصوفًا، طبيبًا ماهرًا، فقيهًا، بارع الأدب؛ ناظمًا، ناثرًا، مشاركًا في جملة من الفنون[6].
وقال عنه المراكشي في (المعجب): صرف عنايته في آخر عمره إلى العلم الإلهي ونَبْذِ ما سواه، وكان حريصًا على الجمع بين الحكمة والشريعة، معظِّمًا لأمر النُّبُوَّات ظاهرًا وباطنًا، هذا مع اتساعٍ في العلوم الإسلامية، وكان أبو بكر هذا أحد حسنات الدهر في ذاته وأدواته[7].
وقد أخذ ابن طفيل على عاتقه جمع العلماء وجلبهم من البلاد والأقطار إلى بلاط يوسف بن عبد المؤمن، وكان يحضُّه على إكرامهم والتنويه بهم، وكان ممن جلبهم إليه الفيلسوف الكبير والفقيه المالكي المعروف أبو الوليد بن رشد، فمن هنا عُرف ابن رشد وبلغ ما بلغ[8].
وله شعر «غاية في الجودة»[9]؛ ومنه في الزهد: [البسيط]
يَا بَاكِيًا فُرْقَةَ الأَحْبَابِ عَنْ شَحَطٍ[10] *** هَلاَّ بَكَيْتَ فِرَاقَ الرُّوحِ لِلْبَدَنِ؟!
نُورٌ تَرَدَّدَ فِي طِـينٍ إِلَـى أَجَلٍ *** فَانْحَازَ عُلْوًا وَخَلَّى الطِّيـنَ لِلْكَفَنِ
يَا شَدَّ مَا افْتَرَقَا مِنْ بَعْدَ مَا اعْتَلَقَا *** أَظُنُّهَا هُدْنَةً كَانَتْ عَلَى دَخَنِ[11]
إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي رِضَا اللهِ اجْتِمَاعُهُمَا *** فَيَا لَهَا صَفْقَةً تَمَّتْ عَلَى غَبَنِ[12]
عاش ابن طفيل 87 سنة، وتُوُفِّيَ بمَرَّاكُش سنة (581هـ= 1185م)، وحضر الخليفة يعقوب المنصور جنازته[13].
التعليقات
إرسال تعليقك