جروح نازفة
جروح نازفة
باتت الأمة ممزقة، وتكالب عليها الأعداء من كل حدب وصوب، وتناحرت في ما بينها وتنازعت، فصارت الجروح شتى في البلاد، والنزيف يتزايد بين العباد، وهذه بوابة تهتم بملفات المسلمين والبلاد الإسلامية في العالم، التي تنزف الجراح من احتلال المعتدين، أو خلافات المتناحرين، حروب وانقسامات، وتدمير وإرهاب.. كل ذلك في جروح نازفة.
ملخص المقال
حوار مع المحلل العراقي عدنان حسين حول تهميش السنة العرب في العراق، مشددا على حاجة العراق للعودة لأحضان أمته العربية بعد 8 سنوات من الاحتلال
حذر المحلل العراقي المقيم في لندن عدنان حسين أحمد من خطورة استمرار محاولات تهميش السُّنَّة العرب في بلاده، وهو الأمر الذي أكد أنه يسير على قدم وساق، إضافة إلى ما تواجهه بلاد الرافدين من أحزاب تدين بالولاء لإيران؛ لكونها نمت في أحضانها لأكثر من ثلاثة عقود.
وقال عدنان حسين في حديثه: إن أذناب الاحتلال إذا كانوا موجدين قبل الاحتلال، فإن الاحتلال ذاته خلف وراءه مزيدًا من أذنابه. مشددًا على ضرورة البحث عن حل سياسي محلي وليس حاملاً لماركة أجنبية.
وشدد على حاجة العراق إلى العودة لأحضان أمته العربية، بعد 8 سنوات من الاحتلال، واصفًا القوى السياسية في بلاد الرافدين بأنها تبحث عن مكاسب خاصة. غير مستبعد الربيع العربي عن العراق، على نحو ما قام بعدة دول عربية. وتاليًا تفاصيل الحوار:
موقف العرب والعالم
** ما هو توصيفك للدور العربي في دعم العراق لتجاوز أزماته خلال المرحلة المقبلة؟ وهل ترون أن هذا الدور يمكن أن يتعاظم، بعدما كان خافتًا منذ الغزو الأمريكي؟
- العراق هو جزء أساسي من الأمة العربية، ومعذرة للإخوة الأكراد العراقيين الذين يرون غير ذلك، أو ربما يتحسسون من مفردة العراق العربي؛ لكونهم من قومية أخرى نحترمها. إن الدور العربي مهم للغاية في دعم العراق وتعزيز مكانته القوية التي كانت محط أنظار الجميع.
ومن هنا، فإنه لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن بغداد قد حكمت العالم خمسة قرون، ليس بوصفها نيرًا يكبح جماح الآخرين، وإنما بوصفها منارة أخرجت الآخرين بإذن الله من ظلماتهم إلى سواء السبيل، وقادتهم إلى فضاءات العدالة والحرية والحكم الرشيد. كان حجة الأشقاء العرب أن العراق كان محتلاًّ ومصادرًا ومغلوبًا على أمره، وها هو الآن حر كريم يتطلع إلى أحضان أمته العربية التي فارقها على مضض منذ ثماني سنوات عجاف ما يزال طعمها مرًّا على أطراف الألسن الحساسة وغير البليدة.
** وفي المقابل، أين تضع دور القوى الكبرى المختلفة في صنع المستقبل لبلاد الرافدين، بعد الانسحاب الأمريكي؟
- سوف تلعب القوى الكبرى دورًا أساسيًّا في العراق الجديد، لكننا نضع ثقتنا الكاملة في أبناء الشعب العراقي الأصيل، الذي يرفض التبعية والذل ولا يقبل إلا بمعاملة الند للندّ. ويتوجب على العراقيين أن يحذوا حذو الشعب الياباني أو الألماني أو سواهما من الشعوب الأصيلة التي أنقذت أبناءها من براثن الاحتلال وتبعاته المهينة.
سيستمر الدور الأمريكي في صناعة مستقبل البلاد، ولكن هذا الدور لا بد أن ينكفئ ذات يوم وتعود بغداد حرة أبيّة جميلة مثل وردة تخضلّها قطرات الندى العراقي في موسم الربيع.
أحزاب برعاية إيرانية
** وما هي رؤيتك للمستقبل السياسي بالعراق في ظل التباينات التي باتت تظهر بين الأحزاب والقوى السياسية بُعيد الانسحاب مباشرة، وخاصة فيما يعرف بالخصوم المهجنين؟
- لا خشية من تباين الأحزاب وتعدد القوى السياسية العراقية؛ لأن طبيعة العراق الديموجرافية تنطوي على هذا التعدد الإيجابي الخلاّق، ولكن الخوف الحقيقي من تبعية بعض هذه الأحزاب والقوى السياسية الوليدة التي نشأت في حاضنة هذا الطرف الأجنبي أو ذاك، وربما أخطرها الأحزاب الدينية التي تأسست ونمت في إيران، فهي تدين بالولاء للموطن الذي نشأت فيه، عندما احتضنهم هذا الموطن طوال ثلاثة عقود زمنية.
كما أن هناك أحزابًا إسلامية أخرى نشأت في حاضنة دول عربية متعددة، ولا تجد حرجًا في الإعلان عن ولائها لهذه الدول التي آزرتها في وقت من الأوقات. ولكنني أقول بثقة كبيرة: إن المجتمع العراقي الأصيل سوف يرفض هذه الحركات الدخيلة التي صعدت إلى سدّة الحكم في غفلة من الزمن، ولا يصحّ في النتيجة إلا الصحيح؛ لأن هذه الأحزاب اللاهثة وراء فردوس السلطة قد حوّلت حياة العراقيين إلى جحيم لا يطاق.
** هناك من يردد مخاوف من وقوع فراغ بالعراق جراء هذا الانسحاب.. فما تعليقكم؟
- الفراغ حاصل أساسًا؛ لأن تغييب أحد المكوّنات الأساسية في العراق وحرمانه من المشاركة الفعلية في السلطة هو تكريس لهذا الفراغ، وتهميش للسنّة العرب على وجه التحديد يسير على قدم وساق، وإقصاء بعض الأطياف الدينية لم ينتبه إليه العالم الخارجي كثيرًا، مثل السريان والكلدان والآشوريين والصابئة المندائيين والإيزيديين وغيرهم من فسيفساء الشعب العراقي، متعدد الأعراق والقوميات والديانات والمذاهب.
غير أن هذا الفراغ سوف يؤسس من دون شك لدكتاتورية نشهد الآن صعود نجمها المتمثل بشخصية رئيس الوزراء نوري المالكي، الذي يعيد إنتاج الدكتاتورية مع سبق الإصرار والترصد.
أذناب الاحتلال
** في ظل الانسحاب الأمريكي من العراق، هل تعتقد أن هذا الاحتلال يمكن أن يخلِّف وراءه أذنابًا تسمح بتنفيذ مخططات غربية في بلاد الرافدين؟
- الأذناب موجودون قبل رحيل الآلات العسكرية الأمريكية، والشخصيات المتطفِّلة على المجتمع العراقي هي نفسها التي كانت تلهث وراء الدبابات الأمريكية التي اجتاحت العراق بحجة إسقاط النظام الدكتاتوري فيه، وإحلال الديمقراطية الغربية فيه، ولكن واقع الحال يشير إلى مخططات مسبقة كانت الإدارة الأمريكية تحاول تنفيذها منذ سبعينيات القرن الماضي.
ويبدو أن حسابات أمثال هؤلاء المستقبلية قد تغيّرت بعض الشيء، الأمر الذي دفعهم للقبول بمعادلة الشارع العربي التي ترجح كفة الأحزاب الدينية التي لا تخلو من تطرّف وسلفية واضحتين، وكأنهم يعيدون اللعبة الأفغانية في العراق، فهم الذين صنعوا (طالبان) وهم الذين أسقطوهم وجاءوا بدميتهم الجديدة (قرضاي) التي يحركونها عبر "الريموت كنترول" من مسافة بعيدة جدًّا. هؤلاء الأذناب الذين أشرت إليهم يحاولون تقسيم العراق وتكريس انقساماته الطائفية الحادة التي تخدم أعداء العراقيين الذين يتربصون بهم الدوائر في داخل العراق وخارجه.
أزمة الهاشمي
** وكيف يمكن قراءة دخول ملف إقليم كردستان على خط الأزمة التي نشبت أخيرًا في البلاد بحق نائب الرئيس طارق الهاشمي، عقب الانسحاب الأمريكي؟ وهل ترون أن الأوضاع مرشحة لمزيد من الأزمات على مستويات أخرى؟
- لا أريد أن أتهم الهاشمي أو أبرِّئه، فهذا الأمر متروك للقضاء العراقي الذي أتمنى أن يكون نزيهًا. فالهاشمي وسواه من قادة (القائمة العراقية) ورموزها مشتركون في السلطة والحكومة وصناعة القرار، وهم جزء أساسي وحيوي من الحراك السياسي في العراق، ولا يمكن لهم أن يكونوا مع السلطة ومعارضين لها في الوقت ذاته.
إن هذه الأزمة مبيّتة، وقد رسمت مخططاتها سلفًا ودبرت في ليل؛ لأن التحالف الوطني لا يريد منافسًا حقيقيًّا على السلطة، ويكفي أن نذكّر بأن القائمة كانت هي صاحبة الحق الدستوري في قيادة العراق، خصوصًا بعد فوزها بفارق ضئيل على دولة القانون. أما الأكراد فهم يتفرجون على هذه النزاعات الجانبية التي تشبه صراع الديكة على مصالح شخصية وحزبية ضيقة لن يرحمهم العراقيون عليها في القادم من السنوات.
الاحتلال وإنتاج الديكتاتورية
** وبرأيك هل عكست كل هذه الخلافات إعادة إنتاج ما يسمى بالديكتاتورية؟
- هناك إعادة إنتاج للدكتاتورية؛ لأننا في العراق وربما في غالبية الدول العربية لا نتقن فن التداول السلمي للسلطة. ويبدو أن سفينة العراق الجديدة التي صنعتها الإدارة الأمريكية بامتياز كبير لا تحتمل أكثر من ربّان واحد، فلا غرابة أن يشمّر المالكي عن ذراعية، ويصرخ متحديًا أن قمة العراق لا تتسع لغيره، وما على الآخرين سوى تأدية فروض الطاعة العمياء له.
إن من يتابع رسم المشهد الدكتاتوري في العراق منذ الاحتلال الأنجلو- أمريكي يُدهش لهذا النقل الحرفي للاستبداد، وكأنَّ المالكي يتماهى في شخصية غريمه الأسبق، ويمشي على خطواته ببهلوانية عجيبة تذكرنا بمقولة: "وقع الحافر على الحافر". والأغرب من ذلك أنه ينزعج ويتبرم حينما يصفه خصومه السياسيون بالدكتاتور أو المستبد أو الحاكم الأوحد، وما إلى ذلك من مفردات التجبّر والطغيان.
أزمة القوى السياسية
** هل يمكن القول بأننا إزاء أزمة نخبة سياسية أصبح العراق مقبلاً عليها، بغية تحقيق مكاسب سياسية من جانب الأطراف المتناحرة؟
- هناك أزمة سياسية حقيقية منذ انتهت الانتخابات التي فازت بها القائمة العراقية، لكنها لم تفلح في تشكيل حكومة بسبب الفرية التي خرج بها المالكي مدعيًا بأن القائمة العراقية لا تشكل غالبية بين الكتل السياسية، على اعتبار أن التحالف الوطني هو الكتلة الأكبر.
لذلك، لا بد من مصارحة الشعب العراقي بالحقيقة المؤلمة التي تقول بأن الأحزاب الستة التي جاءت مع المحتل هي التي ستقود البلاد إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولاً، وأن وضع رموز القائمة العراقية في خطر حقيقي ربما يفضي بالبلاد إلى ما لا تُحمد عقباه.
** وهل تعتقد أن الأزمة التي ظهرت أخيرًا يمكن أن تفرز مزيدًا من الاحتقانات الطائفية؟
- على الرغم من اشتراك القائمة العراقية في الحكومة والبرلمان العراقيين، إلا أنها تبدو مثل شجرة الزينة أو "الديكور" الذي جلبته القوائم الكبرى الأخرى لتمويه الصورة، وتقديم مشهد مزيّف للعالم الخارجي يقول بأن العراق يتربع على منارة المشهد الديمقراطي الشرق أوسطي في الأقل، لكن واقع الحال ينبئ بأن هذا المشهد برمته قائم على ما يقال عنه "كف عفريت"، لا تدري متى ينتفض ويقلب المنطقة الخضراء رأسًا على عقب.
هذه الخلطة غير السحرية التي وضعت في قارورة واحدة ظلت محافظة على برازخها الأساسية؛ لأن كل مكوّن على حدة يتآمر على الآخر، ولهذا ظلت ألوانهم جميعًا بشعة ومرفوضة من قبل الشارع العراقي الذي ابتلي بهذه القوى السياسية التي تحمل على جبينها ماركات أجنبية مستوردة، بينما لا يفضل غالبية العراقيين إلا الإنتاج المحلي الصرف، ومن اضطُرّ إلى اقتناء البضاعة الأجنبية اضطرارًا فلا إثم عليه.
تجاذبات سياسية
** وفي ظل كل هذه الأزمات، كيف يمكن الخروج من كل هذه التجاذبات؟ وهل يمكن أن يكون للمحاصصة دور في احتواء مثل هذه التباينات؟
التحاصص يشبه وصفة سحرية تهبط علينا من سماء غير متوقعة، وهي لا تتوفر دائمًا؛ لأنها تشبه العلاجات الأجنبية النادرة في بلد لا يستورد ولا يسمح بالتهريب ولا يتيح للصوصية الاقتصادية أي منفذ. يمكن الخروج من الأزمة بكل بساطة عن طريق الانتخابات النزيهة وصناديق الاقتراع المكهربة التي تصعق أيدي المزورين، وتكتشف باعة الأصوات الانتخابية مقابل أثمان بخسة أخجل من الإشارة إليها.
وأعطني صناديق شفافة تلفظ هذه الأصوات الانتخابية المزورة أعطك حكومة ديمقراطية ناعمة لها ملمس الحرير ورقّة العطر الباذخ.
الربيع العراقي
** على نحو آخر، هل ترون أن العراق يمكن أن يكون مقبلاً على ما يعرف بـ"الربيع العربي"؟
- لا أحد يضمن كرسيّه بعد الربيع العربي الذي شهدته تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، على الرغم من المآسي الكثيرة التي شهدتها هذه البلدان قاطبة. فالأمريكيون ولا البريطانيون ولا الأوربيون عمومًا قادرون على أن يمسكوا بصمام الأمان إذا ما طفح الكأس وبلغ السيل الزبى.
إن عمليات القتل والاغتيال وتصفيات بعض المثقفين العراقيين لا يمكن لها أن تكبح جماح الربيع العراقي إذا ما أزف موعده. وأخشى أن تستمر هذه القوى السياسية المتصارعة على السلطة والثروة والجاه في غيّها وإهمالها لمتطلبات الشعب العراقي، ولا غرابة في أن تكون عاقبتهم وخيمة إن لم يتداركوا أنفسهم، ويكفوا عن سرقة المال العام والتلاعب بمقدرات العراقيين الشرفاء الذين يشبهون الجمل المحمّل بالذهب بينما يملأ جوفه بالعاقول.
المصدر: موقع الإسلام اليوم.
التعليقات
إرسال تعليقك