جروح نازفة
جروح نازفة
باتت الأمة ممزقة، وتكالب عليها الأعداء من كل حدب وصوب، وتناحرت في ما بينها وتنازعت، فصارت الجروح شتى في البلاد، والنزيف يتزايد بين العباد، وهذه بوابة تهتم بملفات المسلمين والبلاد الإسلامية في العالم، التي تنزف الجراح من احتلال المعتدين، أو خلافات المتناحرين، حروب وانقسامات، وتدمير وإرهاب.. كل ذلك في جروح نازفة.
ملخص المقال
قطار التسوية الغارق في الأوحال مقال لعلي بدوان يشير إلى حصاد اتفاق أوسلو، كقضية ازدياد الاستيطان، وعدم قيام دولة فلسطينية والانقسام الفلسطيني وعرض
مرت عشرون عامًا بالتمام والكمال على توقيع اتفاق أوسلو الأول في حديقة البيت الأبيض في واشنطن بين الطرفين الرسمي الفلسطيني و"الإسرائيلي"؛ هذا الاتفاق الذي شكل نقطة انعطاف تاريخية في مسار الصراع العربي والفلسطيني مع المشروع الكولونيالي التوسعي الصهيوني على عموم أرض فلسطين التاريخية، بل وكان الحدث الأبرز منذ نكبة فلسطين عام 1948.
فأين نحن الآن وبعد مضي عقدين من الزمن من توقيع الاتفاق، وقد تبخرت معظم الآمال التي طالما بناها البعض في مخيلته منتظرًا قيام دولة فلسطينية مستقلة فوق عموم الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967، وقيام سنغافورة جديدة على أرضها؟
تبخر الأوهام
بالفعل كانت الآمال المعلقة كبيرة جدًّا عند أصحاب النهج السياسي التفاوضي في ساحة العمل السياسي الفلسطيني؛ فقد اعتقدوا -وفي قراءة خاطئة لخارطة الأوضاع العربية والدولية والإقليمية ولخارطة الوضع "الإسرائيلي" الداخلي- أن العملية السياسية سيتمخض عنها خلال أقل من خمس سنوات ولادة وقيام الدولة الفلسطينية العتيدة الكاملة الأوصاف فوق عموم أراضي الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، مع استمرار المفاوضات بالنسبة إلى باقي عناصر القضية الفلسطينية وخصوصًا منها قضية اللاجئين الذين يُشكلون عمليًّا نحو (65%) من أبناء الشعب الفلسطيني، أقل من نصفهم بقليل في مخيمات اللجوء على أرض الضفة الغربية وقطاع غزة، والباقي في دول الطوق المحيطة بفلسطين (سوريا ولبنان والأردن).
الآمال التي بدت مساحتها التفاؤلية كبيرة جدًّا عند أصحاب التسوية السياسية في ساحة العمل الوطني الفلسطيني اصطدمت بعوائق هائلة، وبدت وكأنها ليست سوى رهانات خاطئة وأوهام سرابية عند من يلعب بالسياسة على طريقة (حَجَر النرد) ونهج (تجريب المجرب) في مغامرة كانت أثمانها باهظة من الزاوية الوطنية الفلسطينية، مقابل إنجازات متواضعة لم تكن بالمستوى المطلوب.
فقيام الكيان الوطني الفلسطيني ولو على شبر من أرض فلسطين أمرٌ مُستحسن في مسار إعادة انبعاث الكيان الوطني للشعب الفلسطيني بعد نكبة عام 1948, ولكن ذلك الكيان الذي تشكَّلت ملامحه وتجلت بشكلها الحالي بعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994 كان هشًّا، وتحت قبضة الاحتلال من زاوية السيطرة "الإسرائيلية" الكاملة على البر والبحر والجو والاقتصاد وبوابات العبور، وعلى الضخ المالي الوارد من الدول المانحة وسواها.
ونحن هنا لسنا بصدد تقديم جردة لحسابات الربح والخسارة بتفاصيلها؛ لكن هناك بعض القضايا الرئيسية التي تجب الإشارة إليها؛ وعلى رأسها مسألة الاستيطان المتواصل للأرض الفلسطينية، وذلك على الرغم من توقيع اتفاق أوسلو؛ الذي لم يشفع لتلك الأرض أو يحميها من عمليات المصادرة والتهويد على يد قطعان الهمجية الصهيونية.
أكذوبة القومية اليهودية
فمنذ توقيع اتفاق أوسلو الأول لم تتوقف عمليات تهويد الأرض، بل تسارعت بشكل كبير في عموم منطقة القدس وعلى محيطها القريب وداخل أحيائها العربية الإسلامية والمسيحية، فضلاً عن بعض مناطق الضفة الغربية، وتحديدًا في المناطق الجبلية والتلال المرتفعة، وعند الحوض المائي الكبير شمال الضفة الغربية، (شمال مدينة جنين وطولكرم من محافظة نابلس).
وفي هذا الصدد تقدر مصادر فلسطينية مسئولة بأن أكثر من خمسائة ألف دونم من أراضي الضفة الغربية دون القدس ومحيطها تمت مصادرتها منذ توقيع اتفاق أوسلو الأول؛ بغرض توسيع عمليات تهويد واستيطان الأرض، ولتصل أعداد المستوطنين لنحو ربع مليون مستوطن في مستعمرات الضفة الغربية، ومعهم نحو ثلاثمائة ألف مستوطن في مناطق القدس الشرقية ومحيطها، حتى بدا الأمر المتعلق بعمليات التهويد والاستيطان كعنصر استعصاء رئيسي عطل وما زال يُعَطّل انطلاق قاطرة عملية التسوية حتى في انطلاقتها الأخيرة قبل شهرين.
لقد قادت عملية تسوية أوسلو وعلى ضوء حالة اللا توازن التي حكمت إيقاع مسارها لتوالد المزيد من الشروط والاشتراطات والإملاءات "الإسرائيلية" كان منها على سبيل المثال المطلب الداعي للاعتراف الفلسطيني والعربي بما يسمى "يهودية إسرائيل"، في سعي صهيوني لبلورة فلسفة جديدة تقوم على صناعة أكذوبة "القومية اليهودية" ولي عنق الحقيقة التاريخية، واستيلاد ميثولوجيا توراتية تقول بأرض "إسرائيل" التوراتية الكاملة، ليكون في ختامها تصفية كاملة لوجود نحو (22%) من المواطنين العرب أبناء الوطن الأصلي من سكان الدولة العبرية.
تعميق الانقسام في البيت الفلسطيني
وفوق هذا وذاك إن اتفاق أوسلو الأول الذي جاء في ظل حالة عربية فاقدة للتوازن بعد حرب الخليج الثانية، وما صاحبها من طبقات كبيرة وسميكة من الإحباط في الشارع الفلسطيني، راكم الخلافات الداخلية في البيت الفلسطيني، وتسبب بشكل رئيسي في حدوث عملية الانشطار والانقسام الكبرى داخل الساحة الفلسطينية.
في حين أعادت الانتفاضة الثانية توحيد مجموع القوى الفلسطينية بعد أن غرق اتفاق أوسلو واستنساخاته في أوحال التطرف وسياسات الغطرسة "الإسرائيلية"، واستمرار تهويد الأرض، وفقدان الرعاية الدولية النزيهة، وانفراد الولايات المتحدة برعاية العملية السياسية، واقتصار دور الرباعية الدولية (مجموعة الكفارتيت) على الحضور كـ"شاهد زور" في أفضل الحالات؛ لكن الانقسام الفلسطيني بقي على حاله بعد أن تمت عملية الغدر بالانتفاضة الثانية.
لقد أيقنت "إسرائيل" وعموم صناع القرار فيها أن اتفاق أوسلو واستنساخاته قد جلب الانقسام العميق للبيت الداخلي الفلسطيني، فعَمِلت الأخيرة على توسيعه عبر اللعب الحر لإحداث المزيد من التشرذم والانشقاق في البيت الفلسطيني؛ وذلك من خلال نهج إدارة المسألة أو الصراع مع الفلسطينيين عوضًا عن السعي للتوصل إلى حلول حقيقية عبر تقديم مشاريع سيئة أولاً ووهمية ثانيًا، لإثارة الجدل والخلاف داخل البيت الفلسطيني، مع أنها تحمل عنوانًا فضفاضًا اسمه إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
وعليه فإن كل ما قُدم إسرائيليًّا حتى الآن وحتى أميركيًّا منذ "خارطة الطريق الأميركية"، التي ذاع صيتها، لم يكن أكثر من تكرارٍ سمجٍ للمنوال الإسرائيلي ذاته من المشاريع التي سبق وأن شبع الفلسطينيون كلامًا عنها وعن الدولة المستقلة، التي اقترحها رابين ذات مرة وشيمون بيريز وإيهود باراك مرة ثالثة، وهكذا.
ولم تكن في حقيقتها سوى مشاريع "الدوران في الحلقة المفرغة"؛ ما دام أنها أساسًا لا تستجيب لشرعية قرارات مجلس الأمن الدولي؛ خصوصًا بالنسبة إلى مبدأ الانسحاب الشامل والتام حتى خطوط الرابع من يونيو 1967، ووحدة عناصر القضية الفلسطينية ككل لا يتجزأ.
لقد وقع الفلسطينيون -وأقصد الجانب الرسمي الذي يمثلهم- في مطب المثل الشعبي الفلسطيني القائل "رضينا بالبين والبين ما رضي فينا". ولم يدرك هذا الجانب أن المعادلة في الطرف "الإسرائيلي" تحكُمها عدة اعتبارات، فكلما ضعُف الطرف العربي والفلسطيني ازدادت واندلقت شهية الجانب الإسرائيلي وغطرسته؛ خصوصًا عند أطراف اليمين بشقيه التوراتي والعقائدي، وهي الأطراف التي تعتقد بأن الثمن الذي ستحتاج إسرائيل لدفعه للسلام مع الفلسطينيين سيدفع الحالة "الإسرائيلية" الداخلية إلى شقاق وتمزق سياسي عقائدي داخلي عميق على خلفيات أيديولوجيا استيطانية، كما هو حال مستوطني الضفة الغربية من المستعمرين اليهود.
لقد قدمت مختلف الأحزاب والكتل الأساسية في "إسرائيل" خلال العقد الأخير رؤية واضحة المعالم والحدود لمستقبل الحل مع الفلسطينيين.
وهذه رؤية أقل ما يقال عنها بأنها لا تشكل فقط تدهورًا على النسب والشكل العام للعرض المقدم لـ ياسر عرفات في كامب ديفيد الثانية في يوليو 2001 من قبل الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون ورئيس وزراء إسرائيل آنذاك إيهود باراك.
فبينما كانت سمة عرض كامب ديفيد الثانية هي صفقة أسمتها مصادر السلطة الفلسطينية ذاتها بصفقة "سلام ناقصة"، فإن ما قدم لاحقًا وفي محطات مختلفة له سمة مختلفة تمامًا لإقامة دولة فلسطينية على "معظم" أراضي الضفة الغربية وفي قطاع غزة، والبحث في المسائل التي يكون فيها نسبيًّا من السهل الوصول إلى اتفاق مثل طبيعة الدولة الفلسطينية (كيان، شبه كيان مرتبط بإسرائيل، كيان مرتبط بالأردن، محمية ليست سوى أوسع من حكم ذاتي وأقل من دولة)، ومؤسساتها الرسمية والنظام الاقتصادي فيها من حيث تبعيته "لإسرائيل" والترتيبات الجمركية بين الجانبين.
أخيرًا لقد خاطب الراحل ياسر عرفات الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الراحل جورج حبش قائلاً له: "إن أوسلو خيار صعب وقاسٍ على الفلسطينيين، وهو الممكن في ظروف المرحلة التاريخية". فرَدَّ عليه الحكيم حبش بأن "الثورة الفلسطينية قامت لتحقيق المستحيل لا الممكن".
وهنا نتوقف لنقول: إن دروس المرحلة التي انقضت خلال عقدين من الزمن تفترض بالفلسطينيين توحيد وتكتيل الجهود من أجل تصحيح مسارات الأخطاء التي وقعت، والاتجاه نحو الخروج من المأزق الخطير الذي تعيشه الحركة الوطنية الفلسطينية، على أساس الشراكة السياسية الكاملة وفقًا لمبدأ تكامل الأدوار، باعتبار أن إنجاز المشروع الوطني الفلسطيني يحتاج إلى جهود كل ألوان الطيف السياسي الفلسطيني، ومغادرة مربع الأوهام لصالح سياسات متماسكة بالنسبة إلى عملية التسوية اللا متوازنة والمختلة، والغارقة في أوحال الغطرسة والتعنت الإسرائيلي.
المصدر: الجزيرة نت
التعليقات
إرسال تعليقك