التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
كان فتح القسطنطينية أحد أهم الأحداث في تاريخ الدنيا، كما كان له آثار عظيمة، فقد نقل الدولة العثمانية نقلة نوعية، ورفع من سقف طموحاتها بشكل كبير.
لقد كان فتح القسطنطينية أحد أهمِّ الأحداث في تاريخ الدنيا، وكان له آثارٌ عظيمةٌ على كلِّ المستويات، فقد نقل الدولة العثمانية نقلةً نوعيَّة، ورفع من سقف طموحاتها بشكلٍ كبير، وزرع الثقة في قلوب القادة والشعب على حدٍّ سواء. لقد لاحظنا بعد هذا الفتح زيادة اهتمام الدولة بالتسليح، والأسطول، ومن عدد الجيش، وصارت قوَّة الدولة مضاعفة بالسيطرة على المضايق البحريَّة، وصارت طموحات السيطرة على موانئ البحر الأسود مشروعة وممكنة، وعلى المستوى الاقتصادي زادت إمكانات الدولة بشكلٍ مطَّرد، ويربط المؤرِّخ دونالد بيتشر Donald Pitcher بين سيطرة الدولة العثمانيَّة على المضايق والانتعاش الاقتصادي الكبير الذي أعقب فتح القسطنطينيَّة؛ وذلك بسبب الجمارك الكبيرة التي كانت تفرضها الدولة على السفن التجاريَّة الكثيرة التي تعبر من خلال المضايق[1]، وأكثر من كل ذلك هو بداية توجُّه الدولة العثمانيَّة نحو إنشاء إمبراطوريَّةٍ عالميَّة، وليس مجرَّد دولةٍ قويَّةٍ في أوروبَّا، وهذا التوجُّه أعقبه تغييراتٌ جِذريَّةٌ في فكر الدولة، وطريقة إدارتها.
هزَّ فتح القسطنطينية العالم أجمع! يُصوِّر بابينجر الحالة العامَّة في أوروبَّا عند سماع خبر النصر العثماني الكبير بقوله: «هذا التهديد المستمر، الذي ملأ نفوس الأوروبِّيِّين بالجزع، وأصاب بالشلل روح العزيمة عندهم- أدَّى إلى آثارٍ كارثيَّةٍ على الحياة الداخليَّة لكلِّ الأمم الأوروبِّيَّة»[2]! كتب أهل كريت منشورًا في أحد كنائسهم فيه: «لم يحدث -ولن يحدث- أمرٌ أكثر حزنًا من هذا السقوط»[3]! عندما وصل الخبر إلى البندقية ارتفع الصراخ والنحيب في كلِّ المكان، وفي داخل مجلس الشيوخ البندقي، وبعد كلمات الرثاء والحزن، انقلب البكاء إلى تلاوم، وانطلق الجميع يلوم الحكومة البندقيَّة على تباطؤها في التعامل مع الأمر، ويتَّهمونها بالإهمال»[4]! وصل الخبر إلى البابا في 8 يوليو، وكان تعليقه الأوَّل على الحدث: «هذا عارٌ للنصرانيَّة»! ثم أرسل من فوره رسائل إلى عامَّة أقطار أوروبَّا حتى وصل الخبر إلى لندن[5]، انفجر إمبراطور النمسا فريدريك الثالث Frederick III في البكاء عند سماعه الخبر، ثم انعزل للدعاء والصلاة عدَّة أيَّام[6]! أما الأقطار الأرثوذكسية فقد أدركت فارق القوَّة الكبير الذي صار للعثمانيِّين بعد فتح المدينة الحصينة، ولذلك رضخ الجميع في سكون، وقبلوا بدفع الجزية دون اعتراض، واستقبل سراي السلطان في إدرنة في شهر أغسطس سفراء الأرثوذكس في المنطقة، وحُدِّدت في هذه المقابلات قيمة الجزية السنويَّة في مقابل سيادة الدولة العثمانيَّة، ودفاعها عنهم، فكانت الجزية على أمراء المورة اليونانيَّة -وهم إخوة الإمبراطور الراحل قُسطنطين الحادي عشر- عشرةَ آلاف دوكا ذهبيَّة[7]، وكانت جزية مملكة طرابزون ألفي دوكا ذهبيَّة[8]، أمَّا إمارة صربيا فقد كانت الجزية المقرَّرة عليها اثني عشر ألف دوكا ذهبيَّة[9].
أما على مستوى العالم الإسلامي فقد كان الخبر مُفْرِحًا بدرجةٍ كبيرة؛ حيث تحقَّق نجاحٌ سعى وراءه المسلمون أكثر من ثمانية قرون، وتحقَّقت بشارة نبويَّة عظيمة، وقد كانت دولة المماليك -ومقرها القاهرة في مصر- أهمَّ دول العالم الإسلامي آنذاك، فأبْدَتْ سعادةً غامرةً لهذا الحدث، وأقام سلطانها الأشرف إينال -وهو من أفضل سلاطين المماليك وأورعهم- الاحتفالات في القاهرة لمدَّة ثلاثة أيَّام، ووزَّع الكثير من الصدقات فرحًا بهذا النصر[10].
إن كثيرًا من العلماء يعتبرون فتح القسطنطينية حدثًا فارقًا بين العصور الوسطى والعصور الحديثة[11]؛ كأنَّ البشريَّة قد دخلت طورًا جديدًا تمامًا بعده، وقد يرجع ذلك إلى عدَّة عوامل مجتمعة؛ منها ترسُّخ الوجود العثماني في أوروبَّا بعد هذا الفتح ممَّا أثَّر في تاريخ المنطقة والعالم لخمسة قرونٍ لاحقة، ومنها استخدام وسائل حديثة كالمدافع العملاقة ممَّا دفع حروب الدنيا إلى طُرُقٍ جديدةٍ لم تكن موجودةً قبل ذلك، ومنها هجرة كثيرٍ من علماء بيزنطة إلى إيطاليا بعد فتح المدينة، ممَّا كوَّن نواة النهضة الإيطاليَّة ثم الأوروبِّيَّة، ومنها تغيُّر سياسة أوروبَّا الغربيَّة ووسط أوروبَّا من الناحية العسكريَّة والدبلوماسيَّة؛ لأنَّهم كانوا يعتمدون تمامًا على القسطنطينيَّة في وقف الزحف الآسيويِّ ضدَّ أوروبَّا، سواءٌ كان هذا الزحف فارسيًّا، أم مغوليًّا، أم إسلاميًّا، على اختلاف المراحل التاريخيَّة، أمَّا الآن وبعد سقوط القسطنطينيَّة انتقلت مهمَّة الدِّفاع عن أوروبَّا إلى بلجراد وڤيينا Vienna وبودابست، وهي مناطق في عمق أوروبَّا، ممَّا يُمثِّل خطرًا كبيرًا على أمن أوروبَّا الغربيَّة، وقد دفعهم هذا إلى تغييراتٍ كبيرةٍ في سياساتهم، ودبلوماسيَّاتهم، وطرقهم العسكريَّة؛ بل علاقاتهم التجاريَّة والاجتماعيَّة وغيرها.
نعم لقد تغيَّر كلُّ شيءٍ بعد سقوط القسطنطينيَّة، وهذا الذي جعل العلماء يعتبرونها لحظةً فارقةً في تاريخ الإنسانيَّة![12].
[1] Pitcher, Donald Edgar: An historical geography of the Ottoman Empire from earliest times to the end of the sixteenth century with detailed maps to illustrate the expansion of the Sultanate, E. J. Brill, Leiden, Netherlands, 1973., p. 84.
[2]. Babinger, Franz: Mehmed the Conqueror and His Time, Princeton University Press, 1978., p. 98.
[3] Palmer, Alan Warwick: The Decline and Fall of the Ottoman Empire, Barnes & Noble Publishing, 1992., p. 1.
[4] Setton, Kenneth Meyer: The Papacy and the Levant (1204–1571), The American Philosophical Society, Philadelphia, USA, (Volume 2, The Fifteenth Century, 1978),, vol. 2, p. 138.
[5] Freely, John: The Grand Turk: Sultan Mehmet II, Conqueror of Constantinople and Master of an Empire An Empire And Lord Of Two Seas, The Overlook Press, New York, 2009., p. 49.
[6] Babinger, 1978, p. 121.
[7] Setton, 1978, vol. 2, p. 161.
[8] Freely, 2009, p. 51.
[9] Babinger, 1978, p. 103.
[10] ابن تغري بردي، يوسف: النجوم الزاهرة في تاريخ مصر والقاهرة، دار الكتب-وزارة الثقافة والإرشاد القومي، القاهرة، 1939م، الصفحات 1/70، 71.
[11] Babinger, 1978, p. 98.
[12] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 1/ 263- 265.
التعليقات
إرسال تعليقك