ملخص المقال
كان يحيى بن يحيى الليثي فقيه الأندلس في عصره، كما كان عفيفًا وزاهدًا في الولاية متنزهًا، وعلا شأنه، فكان أعلى قدرًا من القضاة عند ولاة الأمر.
يحيى بن يحيى الليثي.. نسبه ومولده
هو الإمام الكبير، فقيه الأندلس، أبو محمد يحيى بن يحيى بن كثير بن وسلاس ابن شمال بن منغايا الليثي، أصله من البربر من قبيلة مصمودة بطنجة، تولى بني ليث فنسب إليهم، ولد في سنة 152هـ= 849م، وهو غير الإمام يحيى بن يحيى النيسابوري.
يحيى بن يحيى الليثي.. ورحلته في طلب العلم
رحل يحيى بن يحيى الليثي إلى المشرق وهو ابن ثمان وعشرين سنة فسمع الموطأ من الإمام مالك، وسمع بمكة من سفيان بن عيينة، وبمصر من الليث بن سعد وعبد الله بن وهب وعبد الرحمن بن القاسم، وتفقه بالمدنيين والمصريين من أكابر أصحاب مالك بعد انتفاعه بمالك وملازمته له، ثم عاد إلى الإمام مالك فوجده في مرض الموت فأقام عنده إلى أن توفاه الله، وشهد جنازته، وذهب إلى قرطبة بعلم كثير.
يحيى بن يحيى الليثي.. ومكانته العلمية
كان الإمام مالك يسمي يحيى بن يحيى الليثي عاقل الأندلس، وسبب ذلك فيما يروى أنه كان في مجلس مالك مع جماعة من أصحابه، فقال قائل قد حضر الفيل، فخرج أصحاب مالك كلهم لينظروا إليه، ولم يخرج يحيى، فقال له مالك: ما لك لم تخرج لتنظر الفيل وهو لا يكون في بلادك؟ فقال له يحي: لم أجئ من بلدي لأنظر إلى الفيل، وإنما جئت من بلدي لأنظر إليك وأتعلم من هديك وعلمك، فأعجب به مالك وسماه عاقل أهل الأندلس.
وبعد رحلته الطويلة في طلب العلم عاد يحيى بن يحيى الليثي إلى الأندلس، وأصبح عالمها الأول في عصره، وبه انتشر مذهب الإمام مالك في تلك البلاد، وتفقه به جماعة لا يحصون عددًا وروى عنه خلق كثير، وأشهر روايات الموطأ وأحسنها كانت رواية يحيى بن يحي، وكان مع إمامته ودينه معظمًا عند الناس، عفيفًا وزاهدًا في الولاية متنزهًا، وعلا شأنه، فكان أعلى قدرًا من القضاة عند ولاة الأمر هناك، حيث كان لا يولي قاضي في أقطار بلاد الأندلس إلا بمشورته واختياره.
لمحات من حياة يحيى بن يحيى الليثي
قال ابن حزم الأندلسي: مذهبان انتشرا في مبدأ أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة، فإنه لما ولي قضاء القضاة أبو يوسف يعقوب، كان لا يولي قضاء البلدان من أقصى المشرق إلى أقصى إفريقية إلا أصحابه والمنتمين إليه وإلى مذهبه.
ومذهب مالك بن أنس عندنا في بلاد الأندلس، فإن يحيى بن يحيى كان مكينًا عند السلطان مقبول القول في القضاة، فكان لا يلي قاض في أقطار بلاد الأندلس إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه، والناس سراع إلى الدنيا فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به، على أن يحيى بن يحيى لم يل قضاء قط ولا أجاب إليه، وكان ذلك زائدًا في جلالته عندهم وداعيًا إلى قبول رأيه لديهم.
وحكى أحمد بن أبي الفياض في كتابه قال: كتب الأمير عبد الرحمن بن الحكم الأموي المعروف بالربضي صاحب الأندلس إلى الفقهاء يستدعيهم إليه، فاتوا إلى القصر، وكان الأمير عبد الرحمن قد نظر في شهر رمضان إلى جارية له كان يحبها حبًا شديدًا، فعبث بها، ولم يملك نفسه أن وقع عليها، ثم ندم ندمًا شديدًا، فسأل الفقهاء عن توبته من ذلك وكفارته، فقال يحيى بن يحيى: يكفر ذلك بصوم شهرين متتابعين، فلما بدر يحيى بهذه الفتيا سكت بقية الفقهاء حتى خرجوا من عنده، فقال بعضهم لبعض وقالوا ليحيى: ما لك لم تفته بمذهب مالك، فعنده أنه مخير بين العتق والطعام والصيام فقال: لو فتحنا له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة، ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود.
قال محمد بن عمر بن لبابة: فقيه الأندلس: عيسى بن دينار، وعالمها: عبد الملك بن حبيب، وعاقلها: يحيى بن يحيى، وقال ابن بشكوال في تاريخه: كان يحيى بن يحيى مجاب الدعوة، وكان قد أخذ في نفسه وهيئته ومقعده هيئة مالك.
وفاة يحيى بن يحيى الليثي
توفي يحيى بن يحيى على الأشهر بقرطبة في رجب سنة 234هـ= 849 م، وقبره بمقبرة بظاهر قرطبة[1].
[1] انظر: ابن عميرة: بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس، ص510- 512، وابن خلكان: وفيات الأعيان، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1900م، 6/ 143- 146، والذهبي: سير أعلام النبلاء، تحقيق: مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، 1405هـ= 1985م، 10/ 519- 525، والمقري: نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، لبنان، 2/ 9- 12، والزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة عشر، 2002م، 8/ 176.
التعليقات
إرسال تعليقك