ملخص المقال
يُعد الإمام أبو حنيفة أحد أساطين الفقه الإسلامي، بل أحد رجال الإسلام المعدودين بشكل عام، وكتب الله لفقهه الانتشار في العالم الإسلامي كله
يُعد الإمام أبو حنيفة أحد أساطين الفقه الإسلامي، بل أحد رجال الإسلام المعدودين بشكل عام، وكتب الله لفقهه الانتشار في العالم الإسلامي كله، إلى جوار فقه الأئمة مالك، والشافعي، وابن حنبل، غير أن أبو حنيفة الأسبق في الترتيب الزمني التاريخي، قال الإمام أبو يوسف: «كانوا يقولون: أبو حنيفة زينَّه الله بالفقه، والعلم، والسخاء، والبذل، وأخلاق القرآن التي كانت فيه». وقال عبد الله بن المبارك: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَتْقَى للَّهِ مِنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَلا رَأَيْتُ أَحَدًا أَعْقَلَ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وقال عنه الإمام سفيان الثوري: «ما مقلت عيناي مثل أبي حنيفة».
مولد أبو حنيفة ونشأته وطلبه للعلم
اتفق الأكثرون على أن أبو حنيفة وُلد سنة 80هـ في الكوفة في خلافة عبد الملك بن مروان وقد دعا علي بن أبي طالب لأبيه: قال إِسْمَاعِيل بن حماد بن أبي حنيفة، يقول: أنا إِسْمَاعِيل بن حماد بن النعمان بن ثابت بن النعمان بن المرزبان، من أبناء فارس الأحرار، والله ما وقع علينا رق قط، وُلد جدي في سنة ثمانين، وذهب ثابت (أبو جدِّي) إلى علي بن أبي طالب وهو صغير فدعا له بالبركة فيه، وفي ذريته، ونحن نرجو من الله أن يكون قد استجاب الله ذلك لعلي بن أبي طالب فينا.
الاختلاف حول أصل أبو حنيفة:
اتفق غالب المحقِّقين على أنه من أصل فارسي من كابول بأفغانستان، وأنه وأباه ولدا أحرارًا، والبعض يقول إنه عربي من قبيلة الأزد اليمنية التي هاجرت قديمًا للعراق.
وكنيته: أبو حنيفة والحنيف هو المائل إلى الدين الحق. وقيل: سبب تكنيته بذلك ملازمته للدواة المسماة حنيفة بلغة العراق. وقيل: كانت له بنتٌ تسمى بذلك، ورُدَّ: بأنه لا يُعلم له ولد ذكر، ولا أنثى غير حمَّاد
نشأة أبو حنيفة:
كانت نشأة الأمام أبو حنيفة في العراق وتحديدًا في الكوفة، وكانت العراق في ذلك الوقت تموج بالفتن واختلاف الآراء والفرق مثل الشيعة، والمعتزلة، والخوارج، والفرق العقائدية المنحرفة؛ كالجهمية، والدهرية، والقدرية، أيضًا كَانَ أبو حنيفة خزازًا يَبِيع الْخَزّ. قَالَ ابْنُ الأَثير: الْخَزُّ الْمَعْرُوفُ أَوّلًا ثِيَابٌ تُنْسَجُ مِنْ صُوفٍ وإِبْرَيْسَمٍ وَهِيَ مُبَاحَةٌ.
الكلام مع الشعبي: والاتجاه إلى العلم
قال أبو حنيفة: مررت يومًا على الشعبي وهو جالس، فدعاني، وقال: إلى من تختلف؟ فقلت: أختلف إلى السوق، وسميت له أستاذي، فقال: لم أعن الاختلاف إلى السوق، عنيت الاختلاف إلى العلماء فقلت له: أنا قليل الاختلاف إليهم، فقال لي: لا تفعل، وعليك بالنظر في العلم ومجالسة العلماء؛ فإني أرى فيك يقظة وحركة، قال: فوقع في قلبي من قوله، فتركت الاختلاف إلى السوق، وأخذت في العلم فنفعني الله بقوله".
الاتجاه إلى الفقه: ولزوم حماد[1]:
عَنْ زُفَرَ بنِ الهُذَيْلِ، سَمِعْتُ أَبَا حَنِيْفَةَ يَقُوْلُ: كُنْتُ أَنظُرُ فِي الكَلَامِ حَتَّى بَلَغتُ فِيْهِ مَبْلَغاً يُشَارُ إِلَيَّ فِيْهِ بِالأَصَابِعِ، وَكُنَّا نَجلِسُ بِالقُرْبِ مِنْ حَلْقَةِ حَمَّادِ بنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، فَجَاءتْنِي امْرَأَةٌ يَوْماً، فَقَالَتْ لِي: رَجُلٌ لَهُ امْرَأَةٌ أَمَةٌ، أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِلسُّنَّةِ، كَمْ (كيف) يُطَلَّقُهَا؟ فَلَمْ أَدرِ مَا أَقُوْلُ، فَأَمَرتُهَا أَنْ تَسْأَلَ حَمَّادًا، ثُمَّ تَرْجِعَ تُخْبِرَنِي. فَسَأَلَتْهُ، فَقَالَ: يُطَلِّقُهَا وَهِيَ طَاهِرٌ مِنَ الحَيْضِ وَالجِمَاعِ تَطْلِيقَةً، ثُمَّ يَترُكُهَا حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَتَيْنِ، فَإِذَا اغْتَسَلتْ، فَقَدْ حَلَّتْ لِلأَزْوَاجِ. فَرَجَعَتْ، فَأَخْبَرَتْنِي. فَقُلْتُ: لَا حَاجَةَ لِي فِي الكَلَامِ، وَأَخَذتُ نَعْلِي، فَجَلَستُ إِلَى حَمَّادٍ، فَكُنْتُ أَسْمَعُ مَسَائِلَه، فَأَحْفَظُ قَوْلَه، ثُمَّ يُعِيْدُهَا مِنَ الغَدِ، فَأَحْفَظُهَا، وَيُخْطِئُ أَصْحَابُه. فَقَالَ: لَا يَجْلِسْ فِي صَدْرِ الحَلْقَةِ بِحِذَائِي غَيْرُ أَبِي حَنِيْفَةَ. فَصَحِبتُه عَشْرَ سِنِيْنَ، ثُمَّ نَازَعَتنِي نَفْسِي الطَّلَبَ لِلرِّئَاسَةِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَعتَزِلَه وَأَجلِسَ فِي حَلْقَةٍ لِنَفْسِي، فَخَرَجتُ يَوْماً بِالعَشِيِّ وَعَزمِي أَنْ أَفْعَلَ، فَلَمَّا رَأَيْتُه، لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أَعتَزِلَه، فَجَاءهُ تِلْكَ اللَّيلَةَ نَعْيُ قَرَابَةٍ لَهُ قَدْ مَاتَ بِالبَصْرَةِ، وَتَرَكَ مَالاً، وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُهُ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَجلِسَ مَكَانَه. فَمَا هُوَ إِلَاّ أَنْ خَرَجَ حَتَّى وَرَدَتْ عَلَيَّ مَسَائِلُ لَمْ أَسْمَعْهَا مِنْهُ، فَكُنْتُ أُجِيْبُ وَأَكتُبُ جَوَابِي، فَغَابَ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ قَدِمَ. فَعَرَضتُ عَلَيْهِ المَسَائِلَ، وَكَانَتْ نَحْواً مِنْ سِتِّيْنَ مَسْأَلَةً، فَوَافَقَنِي فِي أَرْبَعِيْنَ، وَخَالَفَنِي فِي عِشْرِيْنَ، فَآلَيْتُ عَلَى نَفْسِي أَلَاّ أُفَارِقَه حَتَّى يَمُوْتَ.
بر أبي حنيفة بحماد:
عن ابن سماعة، أنه قال: سمعتُ أبا حنيفة يقول: ما صليتُ صلاة مُذ ماتَ حماد إلا استغفرتُ له مع والدي، روي أن أبا حنيفة قال: ما مددتُ رجليَّ نحو دار أستاذي حمّاد؛ إجلالًا له، وكان بين داره وداره سبع سِكك.
التعلم من آخرين:
يقال إنه روى عن سبعة من الصحابة منهم أنس بن مالك، والصواب أنه رآهم، ولم يرو عنهم، وقد تعلَّم على أيدي عدد كبير من الشيوخ بلغ أربعة آلاف، ومنهم أسماء كبرى، كالليث بن سعد، وعطاء بن أبي رباح، ونافع مولى ابن عمر، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وعكرمة، وأبي جعفر الباقر، وقتادة، وعمرو بن دينار، وإبراهيم النخعي، وأيوب السختياني البصري، وربيعة بن عبد الرحمن المدني المعروف بربيعة الرأي، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أحد الفقهاء السبعة، وغيرهم الكثير.
التعلم من امرأة:
«وَقَالَ أَبُو حنيفَة: خدعتني امْرَأَة وفقهتني امْرَأَة وزهدتني امْرَأَة أما الأولى كنت مجتازا فَأَشَارَتْ لي امْرَأَة إِلَى شيء مطروح في الطَّرِيق فتوهمت أَنَّهَا خرساء وَأَن الشيء لَهَا فَلَمَّا رفعته إِلَيْهَا قَالَت احفظه حَتَّى تسلمه إِلَى صَاحبه، وَالثَّانِي سَأَلتنِي امْرَأَة عَن مسألة في الْحيض فَلم أعرف فَقَالَت قولا فتعلمت الْفِقْه، وَالثَّالِث مَرَرْت بِبَعْض الطَّرِيق فَقَالَت امْرَأَة هَذَا الذي يُصَلِّي الْفجْر بِوضُوء الْعشَاء فتعودت ذَلِك حَتَّى صَار عَادَة».
التعلم من حلاق:
عَنْ وَكِيعٍ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو حَنِيفَةَ النُّعْمَانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَخْطَأْتُ فِي خَمْسَةِ أَبْوَابٍ مِنَ الْمَنَاسِكِ، فَعَلَّمَنِيهَا حَجَّامٌ:
1- وَذَلِكَ أَنِّي حِينَ أَرَدْتُ أَنْ أَحْلِقَ رَأْسِي وَقَفَ عَلَيَّ حَجَّامٌ، فَقُلْتُ لَهُ: بِكَمْ تَحْلِقُ رَأْسِي؟ فَقَالَ: أَعِرَاقِيٌّ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: النُّسُكُ لا يُشَارَطُ عَلَيْهِ، اجْلِسْ.
2- فَجَلَسْتُ مُنْحَرِفًا عَنِ الْقِبْلَةِ، فَقَالَ لِي: حَوِّلْ وَجْهَكَ إِلَى الْقِبْلَةِ، فَحَوَّلْتُهُ،
3- وَأَرَدْتُ أَنْ أَحْلِقَ مِنَ الْجَانِبِ الأَيْسَرِ، فَقَالَ: أَدِرِ الشِّقَّ الأَيْمَنَ مِنْ رَأْسِكَ، فَأَدَرْتُهُ
4- وَجَعَلَ يَحْلِقُ وَأَنَا سَاكِتٌ، فَقَالَ: كَبِّرْ. فَجَعَلْتُ أُكَبِّرُ
5- حَتَّى قُمْتُ لأَذْهَبَ، فَقَالَ: إِلَى أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: رَحْلِي، قَالَ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ امْضِ، فَقُلْتُ: مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَا رَأَيْتَ مِنْ عَقْلِ هَذَا الْحَجَّامِ. فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ لَكَ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ؟ فَقَالَ: رَأَيْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ يَفْعَلُ هَذَا[2].
[1] هو حماد بن أبي سليمان من التابعين، روى له مسلم - أبو داود - الترمذي - النسائي - ابن ماجه قال عنه الذهبي: ثقة إمام مجتهد، وقد تعلم من عبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب.
[2] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك