د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
ما أقل المطلوب في صلة الأرحام؟
أحيانًا يبالغ العلماء والدعاة في المطلوب من المسلم في عبادة من العبادات، فيعرضون له أعظم الأمثلة فيها، وبصورة تجعل التطبيق غير عملي لمعظم المسلمين.
والسنة النبوية تحمل طرفين يبدوان بعيدين عن بعضهما البعض، ولكنهما في النهاية من السنة، وهما طرف أقل المطلوب، وطرف أكثر المطلوب، وما كان تحت الأول فهو خارج عن السنة، وكذلك ما كان فوق الثاني فهو خارج عن السنة. (السنة مدى، وليست نقطة)
حديثنا عن أقل المطلوب لتكون واصلًا للرحم (لا نعني الوالدين والأولاد والزوجة).
قطع الرحم مصيبة كبيرة:
ورد في مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "إِنَّ اللهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنَ الْقَطِيعَةِ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَذَاكِ لَكِ"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ، أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}.
ما هو أقل المطلوب في صلة الرحم؟
دعونا نضع قاعدة يمكن استخدامها في أمور كثيرة، وهي مبنية على ما رواه البخاري ومسلم، واللفظ له، عن أَبِي هُرَيْرَةَ قال: قال رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ..».
من هذا المنطلق أقل المطلوب هو أن تجتنب القطيعة: وهذا يعني ألا يكون هناك هجر، أو خصام، أو صراع بينك وبين أحد من رحمك:
· فالهجر في حقِّ المسلم بشكل عام ممنوع؛ وعند البخاري ومسلم عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ: فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ". الإعراض مرفوض حتى دون صدام.
· فإذا كان الأمر هكذا مع عموم المسلمين، فكيف بالرحم، فالقطع إذن ذنب كبير، وقد روى أحمد بسند صحيح عَنْ أَبِي بَكَرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "مَا مِنْ ذَنْبٍ أَحْرَى أَنْ يُعَجِّلَ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ مَعَ مَا يُؤَخَّرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، مِنْ بَغْيٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ".
· هذا ليس أمرًا سهلًا، بل يحتاج مجاهدة، فقد يكون فيه تنازل عن بعض الحقوق المظنونة، أو تساهل في حق النفس، وقد بيَّن الرسول ﷺ هذه الدرجة في حديث البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «لَيْسَ الوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنِ الوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا».
· هذا هو أقل المطلوب.
فإذا أردت الترقِّي في مرتبة الوصل فالباب مفتوح:
1. التواصل على فترات، وخاصة في المناسبات (الأعياد ورمضان)، ويمكن بالتليفون
2. التفاعل عند الأزمات والأحداث الكبرى؛ مثل الجنائز، والأفراح، والنجاحات، والمرض
3. الزيارة والتهادي
4. السؤال الدوري والمساعدة المادية والمعنوية، وتحمُّل المسؤولية؛ وهذه كبيرة عند الله؛ وقد روى النسائي عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ».
نختم بأمرين:
· إذا لم تستطع أن تفعل ذلك مع كل رحمك فلتفعله مع الأقربين منهم؛ فعند مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ؟ قَالَ: «أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أَبُوكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ».
· لا تظنن أنك ستعاني إذا فعلت ذلك، بل سيعود عليك الخير حتمًا، ويكفي أن أذكرك في هذه الحلقة بحديث واحد عظيم في هذا الشأن؛ فقد روى البخاري عَنْ أَنَسِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، يَقُولُ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ (أجله)، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»[1].
[1] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك