التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
اتسعت الدولة الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب، ولم يكن العرب على دراية بإدارة مثل هذه الكيانات الكبرى، ومع ذلك وَفَّق الله عمر لحسن إدارتها.
كانت الإدارة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه إدارة متميزة، حيث كان رضي الله عنه يدير دولة كبيرة ومساحتها ضخمة، ولكي نعرف قدر عظمة إدارة عمر بن الخطاب لدولته لأبد أن ننظر إلى المرحلة التاريخية التي عاشها والبيئة التي نشأ فيها والتجارب التي خاضها، ومن ثمَّ سوف نعرف أنَّ إدارته لهذه الدولة الضخمة كان اعجاز، وفيما يلي سنوضح كيف كان عمر رضي الله عنه يدير دولته الكبيرة الشاسعة.
شبهة الإدارة المركزية:
مع أنَّ عمر رضي الله عنه كان يُعطي كلَّ والٍ صلاحيَّاتٍ كثيرةً لإدارة القطاع الذي يتولَّاه، إلَّا أنَّ بعض المؤرخين يتَّهم عمر رضي الله عنه بأنه كان ينتهج الإدارة المركزيَّة إلى حدٍّ بعيد؛ بمعنى أنَّه كان يُحبُّ أن يكون على درايةٍ كاملةٍ بالتَّفاصيل الدَّقيقة لكلِّ قطاع، ويُحبُّ أن يُشْرَك في القرارات المختلفة. يمكن أن يرى بعض علماء الإدارة أنَّ هذه طريقةٌ بيروقراطيَّة قد تُعوِّق مسيرة العمل.
الإدارة المركزية "النسبيَّة" للدولة:
ينبغي النظر إلى المرحلة التاريخيَّة التي نحن بصددها؛ فهذه بدايات الدولة الإسلاميَّة، وسيُعاني كثيرٌ من الولاة من أمرين لا بُدَّ لعمر رضي الله عنه أن يكون مساعدًا لهم فيهما:
الأمر الأوَّل: هو الرأي الشَّرعي في المسائل التي تعرض لهم، فكثيرٌ من القضايا المستجدَّة على الأمَّة كانت تحتاج إلى رأي مَجْمَعٍ فقهيٍّ كامل، وليس لرأي والٍ يعيش بعيدًا جدًّا عن المدينة، وما أكثر القضايا التي عرضت لعمر رضي الله عنه فكان لا يتمكَّن بنفسه «منفردًا» من القضاء فيها، فيجمع الصحابة، وخاصَّةً العلماء والأقدمين منهم، فيستشيرهم للوصول للحلِّ الأمثل للمسألة.
ولعل هذا هو أحد أوجه خلافه الكبير مع خالد بن الوليد رضي الله عنه، وهو كان يرى أن خالد يتصرَّف دون الرجوع للقيادة، فلعله يقع في بعض الأخطاء الفقهية التي لا ينبغي للدولة المسلمة فعلها، وقد تكرَّر هذا في الواقع، هذا يفتح الباب للردِّ على شبهة أخرى بأنه كان يُضَيِّق على الصحابة فيمنعهم من الهجرة إلى البلدان المفتوحة، فلم يكن عمر رضي الله عنه دكتاتورًا، بل آثر أن يحتفظ بجلِّ الصحابة في المدينة للاستعانة برأيهم:
كان مِنْ سياسةِ عُمَرَ رضي الله عنه الإمساكُ قدر الإمكان بكبارِ الصَّحابةِ في المدينةِ، وعدم السَّماحِ لهم بالهجرةِ إلى البلادِ المفتوحةِ، ويعتقد بعض الناس أنَّ في هذا تضييقًا على حريَّة الصحابة، ومنعًا لهم من الحركة للدعوة إلى الله، أو للاكتساب والمعاش، والأمر في الحقيقة يحتاج إلى تحليل.
لقد كان عمر رضي الله عنه يرى أَنَّ الفقهَ الإسلاميَّ يحتاج في هذه المرحلةِ التاريخيَّة إلى العلومِ الغزيرةِ التي عند كبار الصحابة، وإلى عقولِهم المتميِّزةِ القادرةِ على الاستنباط والتَّحليل، والبارعة في الاجتهاد والقياس، ولهذا كان يُفَكِّر كثيرًا قبل إرسال أيِّ صحابيٍّ إلى قُطْرٍ مِنَ الأقطارِ المفتوحةِ، مع علمِه أَنَّ هذه الأقطار تحتاج، وبشدَّة، إلى جهودِ علماءِ الصَّحابةِ، ولكنَّها كانت مسألة أولويَّاتٍ؛ فبناءُ الفقهِ الإسلاميِّ المتكامل عن طريق وجود عددٍ كبيرٍ مِنَ الفقهاءِ في المدينةِ سينفع الأمَّةَ كلَّها بعد ذلك، وعندما يكتمل هذا البناء يُمكن للصَّحابةِ أَنْ يتحرَّكوا إلى أيِّ مكانٍ كيفما شاءوا.
ظهر هذا في العددِ المحدودِ نسبيًّا مِنَ الصَّحابةِ -بالقياسِ إلى عهدِ عُثْمَانَ رضي الله عنه- الَّذين أرسلهم عُمَرُ رضي الله عنه إلى البلادِ المختلفةِ، كما ظهر في كلمات عُمَرَ رضي الله عنه المعبِّرة عن ألمِه لمغادرةِ هؤلاء العلماءِ للمدينة؛ فقد كتبَ إلى أهلِ الكوفةِ مثلًا عند إرسال عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه لهم: «إِنِّي، وَاللَّهِ الذي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، آثَرْتُكُمْ بِهِ عَلَى نَفْسِي، فَخُذُوا عَنْهُ»[1].
كان عُمَرُ رضي الله عنه يُقارِن بذلك بين فائدتين، ويعتبر أَنَّ صيانةَ السُّنَّةِ النَّبويَّةِ باجتماع العلماء في المدينة على الفتوى في المسائل المختلفة سيُوفِّر حصيلةً علميَّةً كبيرة تنفع الأجيالَ القادمة، وهذا عمقٌ في النَّظر كبيرٌ. ومع ذلك، وعلى الرَّغم من هذه الرَّغبة، كان يضطرُّ إلى إرسال بعض الصَّحابة العلماء إلى هنا وهناك، وكان أحدُ أهدافه الكبرى مِنْ وراء هذا الإرسال -بالإضافة إلى الجهاد- تعليمَ النَّاسِ السُّنَّةَ النَّبويَّةَ، ولقد صَرَّح بذلك في خطبةٍ عصماء له بالمدينة، فكان ممَّا قاله فيها: «اللهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ عَلَى أُمَرَاءِ الْأَمْصَارِ، وَإِنِّي إِنَّمَا بَعَثْتُهُمْ عَلَيْهِمْ لِيَعْدِلُوا عَلَيْهِمْ، وَلِيُعَلِّمُوا النَّاسَ دِينَهُمْ، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم، وَيَقْسِمُوا فِيهِمْ فَيْئَهُمْ، وَيَرْفَعُوا إِلَيَّ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْرِهِمْ»[2].
الأمر الثاني: الذي سيُعاني منه الولاة فهو نقص «الخبرة» في إدارة مثل هذه القطاعات الكبرى، وهو لا يريد للوالي أن «يُجَرِّب» الإدارة مع رعيَّته، أو يتعامل بمنهج «المحاولة والخطأ»؛ فهذه مناهج تدفع فيها الشعوب أثمانًا باهظة، ولذلك آثر عمر رضي الله عنه أن يكون متابعًا لكلِّ شيءٍ بنفسه حرصًا على حقوق رعيَّته في الدولة كلِّها.
التقسيم الإداري للدولة في عهد عمر
اتَّسعت الدولة جدًّا في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يكن العرب على درايةٍ بإدارة هذه الكيانات الكبرى، ومع ذلك وَفَّق الله عمرَ رضي الله عنه لحسن إدارة الدولة الضخمة التي صار يترأَّسها، ولم يشعر أحدٌ بأيِّ نوعٍ من الاضطراب، وكأنَّ المسلمين قد عاشوا عمرهم قبل ذلك يُديرون الإمبراطوريَّات!
كان من أهمِّ الأعمال التي قام بها عمر رضي الله عنه ليتمكَّن من إدارة هذا الكيان الكبير دائم التوسُّع هو تقسيم الدولة إلى قطاعاتٍ كبرى، ومِنْ ثَمَّ تقسيم هذه القطاعات إلى مناطق أصغر، ومتابعة هذا التَّسلسل الهرمي من العاصمة المدينة.
يمكن تحديد خمس قطاعات كبرى كانت تُمثِّل الدولة الإسلاميَّة في أواخر عهد عمر رضي الله عنه. هذه القطاعات الخمس هي العراق، وفارس، والشام، ومصر، والجزيرة العربيَّة، ويختلف المؤرِّخون نسبيًّا حول التقسيمات الداخليَّة لهذه القطاعات الخمس الكبرى، ويمكن تصوُّرها على النحو التالي:
قطاع العراق: وكان قطاع العراق مقسَّمًا في الأساس إلى إقليمي البصرة جنوب العراق، والكوفة وسط وشمال العراق.
قطاع فارس: وكان مقسَّمًا داخليًّا إلى قطاعاتٍ أخرى أصغر: جنوب فارس، وهو التَّابع إداريًّا للبصرة، مقسَّمًا إلى الأحواز، وكرمان، ومكران، وسجستان، وخراسان، وشمال فارس، وهو التابع إداريًّا للكوفة، مقسَّمًا إلى طبرستان، وأذربيجان، وأرمينيا، وكان لولاة العراق نوعٌ من السُّلطة على أقاليم فارس (إيران)، لقربهما منهم، وكانت البصرة تُدير جنوب فارس، وكانت الكوفة تُدير وسط وشمال فارس.
قطاع الشام: وكان مقسَّمًا إلى خمس مناطق جغرافيَّة؛ وهي حمص، وقنِّسرين، ودمشق، والأردن، وفلسطين، وهذه المنطقة الأخيرة كانت منقسمةً إلى قاعدتين: أيلة جنوب فلسطين، والرملة شمال فلسطين.
قطاع مصر: وكان منقسمًا فيما أحسب إلى أربعة مناطق؛ صعيد مصر، ومصر السفلى (الدلتا)، وبرقة (شرق ليبيا)، وطرابلس (غرب ليبيا).
قطاع الجزيرة العربيَّة: وقد أبقى عمر رضي الله عنه على تقسيمه الإداري الذي كان متَّبعًا زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ لأنَّه لم يحدث فيه تغيير سياسي في العهدين، وعليه فقد كان هذا القطاع مقسَّمًا إلى اثنتي عشرة ولاية، هي: مكة، والمدينة، والطائف، وصنعاء، وحضرموت، وخولان، وزبيد، ومرقع، والجند، ونجران، وجرش، والبحرين.
مسح الأرض:
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من مسح سَواد الْعرَاق على يَد عُثْمَان بن حنيف وَهُوَ من أَرض الْموصل إِلَى عبادان (على شط العرب في إيران) طولا وَذَلِكَ مائَة وَخمْس وَعِشْرُونَ فرسخًا، والفرسخ من 4 إلى 6 كيلو متر، وهو مسافة طولية الآن 800 كم، وبحساب عثمان 750 كم!، وَمن عقبَة حلوان إِلَى الْقَادِسِيَّة عرضا وَذَلِكَ ثَمَانُون فرسخًا، الآن 500 كم وهو دقيق تمامًا على حساب الفرسخ 6 كم.
وَبَلغت جربانه سِتَّة وَثَلَاثِينَ ألف ألف جَريب، والجريب قرابة المائة كيلو عند جمهور الفقهاء (98)، وأكثر من ذلك عند الحنفية (156)، يعني 36 مليون جريب يعني 3 مليون و600 ألف طن من الثمار! هذه أرض العراق فقط، وليس كل العراق[3].
[1] ابن سعد: الطبقات الكبرى، 6/89، وابن عبد البر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب، 3/992، وابن عساكر: تاريخ دمشق، 33/143.
[2] مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب نهي من أكل ثومًا أو بصلًا أو كراثًا أو نحوها، (567).
[3] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا: إدارة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، التقسيم الإداري للدولة في عهد عمر
التعليقات
إرسال تعليقك