الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
مرَّ موقف نصارى إسبانيا من الحضارة الإسلامية بمراحل ثلاث الانزواء، ثم الاقتباس، ثم الكثلكة. فما مظاهر تلك المراحل؟ وكيف تعامل معها المسلمون في الأندلس؟
حاول نصارى إسبانيا الاحتفاظ بقوميَّتهم وديانتهم، منزوين في معاقلهم الجبليَّة، إلَّا أنَّ ذلك لم يمنعهم من التأثُّر بوهج حضارة المسلمين في الجنوب والوسط، ولعلَّنا نعرض مواقفهم من هذه الحضارة من خلال مراحلٍ ثلاث:
المرحلة الأولى: "الانزواء" (من الفتح الإسلامي إلى استرداد طليطلة عام 478هـ=1085م).
المرحلة الثانية: الاقتباس (من سقوط طليطلة عام (478هـ=1085م) إلى سقوط غرناطة عام 897هـ=1492م).
المرحلة الثالثة: الكثلكة: ما بعد سقوط غرناطة عام (897هـ=1492م).
المرحلة الأولى: "الانزواء" (من الفتح الإسلامي إلى استرداد طليطلة عام 478هـ=1085م)
بعد أن استقرَّ الفتح الإسلامي في الأندلس في المناطق الجنوبية والوسط، لجأ فلول القوط النصارى إلى الجبال الشمالية، فاجتمع بعضهم في الهضاب الشرقية (الطرف الغربي من البرانس) تحت قيادة زعيمهم الدوق بتروس (Pedro)، وآخرون في الهضاب الغربية (جليقية) تحت زعامة بلايو (Pelayo) (718-737م) من سلالة القوط الملكية، ولمـَّا مات عام 737م تقريبًا، خلفه على إمارة جليقية ابنه فافيلا (Favila) (737-739م) إلَّا أنَّه مات عام 739م، أمَّا الدوق بتروس أمير كانتابريا (Cantabrie) فقد مات في هذه الأثناء وتولَّى الإمارة بعده ابنه ألفونسو الذي تزوَّج ابنة بلايو أمير جليقية، فلمَّا تُوفِّي أخوها فافيلا اختار الجلالقة زوجها ألفونسو ملكًا عليهم، فاتَّحدت الإمارتان بمملكةٍ واحدةٍ هي مملكة ليون أو جليقيَّة كما يُسمِّيها المسلمون، وتلقَّب بألفونسو الأول (Alphonso I) (739-757م) المعروف بالكاثوليكي، وبعد وفاته وقع صراعٌ داخليٌّ في المملكة إلى أن وليها ألفونسو الثاني أو العفيف (791-842م) فأعاد توحيدها، وفي عهده أُعلن عن اكتشاف قبرٍ نُسِبَ إلى القدِّيس يعقوب -أحد حواريِّ المسيح عليه السلام- في إحدى قمم جليقية! حيث حُوِّل إلى محجٍّ، ونشأت حوله مدينة شنت ياقب، فتعزَّزت الهويَّة النصرانيَّة المستقلَّة، وأظهر الجلالقة المظاهر القوطيَّة من عمران وأنظمة، وفي عهد ألفونسو الثالث (866-910م) بُنِي العديد من الكنائس والأديرة، واعتُبر البابويَّة مسئولة عن الشئون الروحيَّة في مملكته، وقاوم المسلمين.
وفي أواخر القرن العاشر الميلادي كانت الممالك النصرانية في إسبانيا ثلاثًا: نافار؛ ويحكمها غرسية سانشيز (Garcia Sanchez I) (916-970م)، وهي أكبر الممالك. ومملكة ليون؛ وكان ملكها برمودو الثاني. ومملكة قشتالة؛ وكان حاكمها غرسيه فرناندز(Fernandez Garcia) (970-995م). وقد قامت ليون بمحاولات استرداد ما يليها من مدن؛ ففي عام 1027م غزا ألفونسو الخامس ملك ليون (999-1028م) أراضي المسلمين شمال البرتغال واستولى على بعضها، إلَّا أنَّ سهمًا انطلق من كنانة مسلم فأرداه قتيلًا، وبعد أن اتَّحدت مملكتا قشتالة وليون، أخذ فرناندو الأوَّل ابن سانشو الكبير ملك قشتالة وليون (1035-1065م) يُخطِّط لاسترداد ما يُمكن استرداده من المدن المتاخمة له، وأشار عليه مستشاره المستعرب ششناندو باحتلال قُلُمُرْية أعظم مدن البرتغال الشمالية، وتمَّ له ذلك عام (465هـ=1064م)، وأمر بإخراج المسلمين من الأراضي المستردَّة.
ثم بدأ فرناندو مشروعه الثاني وهو احتلال طليطلة، بحيث سار إليها بجيش لجب عام (454هـ=1062م)، وأجبر يحيى بن إسماعيل بن ذي النون الملقَّب بالمأمون (المأمون بن ذي النون)، ملكَ طليطلة (435-467هـ= 1043-1075م)، على أداء إتاوة سنويَّة، ولكن مات فرناندو سنة 1065م، فثارت بين أبنائه حرب أهليَّة ولجأ كلُّ واحدٍ منهم إلى حليفٍ مسلم: فلجأ ألفونسو ملك ليون إلى المأمون ملك طليطلة، فكان ذلك فرصةٍ لمعرفة ظروفها وثغراتها، ولمـَّا استقرَّ له ملك قشتالة أخذ يتحيَّن الفرص لاحتلال طليطلة؛ منتهزًا الخلاف بين المسلمين عليها تارةً، والشعور بالتفوُّق العسكري تارةً أخرى، وتمَّ له ذلك يوم الأحد 25 مايو 1085م الموافق مستهل صفر سنة 478هـ.
وعلى الرغم من روح العداء التي اتَّسمت بها الممالك النصرانيَّة بسبب الحروب التي كانت تشنُّها على الدولة الإسلاميَّة، وتطلُّع ملوكها إلى احتلال الجنوب الإسباني؛ فإنَّ هذه الممالك تعاملت مع الحضارة الإسلامية في ميادين عديدة، فقد تأثَّر ملوكها بنمط الحياة التي كان يعيشها الحكَّام المسلمون، مثل "شانجه" كونت قشتالة الذي كان يتربع في خيمته مرتديًا زيًّا إسلاميًّا ومعتمدًا على متكإٍ شرقي، ولم تجد الممالك النصرانيَّة بدًّا من استعمال العملة الإسلاميَّة وتداولها، وقد سكَّ موسى بن نصير عملةً برونزيَّةً بحروفٍ لاتينيَّةٍ وعلى أحد وجهيها صورتان، وفي عام (98هـ=717م) ظهرت عملة مزدوجة من الحروف العربية واللاتينية. ومنذ عام 102هـ، أصبحت العملة عربيَّة الأحرف، وقام عبد الرحمن الناصر بسكِّ عملةٍ ذهبيَّة عُرِفت في الممالك النصرانيَّة باسم "قاسميَّة"، نسبةً إلى ضاربها قاسم، ثم سَكَّ الملوك النصارى عملةً بحروفٍ عربيَّةٍ وقشتاليَّة. وفي مجال النسيج والخزف والحلي تأثَّرت الممالك النصرانيَّة بالفنِّ الإسلامي من نقوش وصور.
المرحلة الثانية: الاقتباس (من سقوط طليطلة عام 478هـ=1085م إلى سقوط غرناطة عام 897هـ=1492م)
عندما حاصر ألفونسو السادس طليطلة، اضطر صاحبها القادر بن ذي النون إلى التسليم مقابل شروط قبلها الإمبراطور، أَلَا وهي: تأمين أهالي طليطلة على دمائهم وأموالهم، والسماح لمن أراد البقاء بالإقامة، ومن أراد الهجرة بالسفر، ولا يفرض عليهم إلَّا غرامةً واحدةً ويبقى المسجد بأيدي المسلمين، ويساعد ألفونسو القادر على أخذ بلنسية. فدخل الأذفونش طليطلة يوم 25 مايو 1085م، وتَسمَّى بملك الملَّتين وكان يكتب ذلك في مناشيره.
بعد أن احتلَّ ألفونسو السادس طليطلة، عهد بها إلى الكونت المستعرب ششناندو الذي كان متسامحًا مع المسلمين، وسعى لدى سيِّده بضرورة الحفاظ على مواثيقه التي أبرمها مع المسلمين.
إن استيلاء ألفونسو السادس على طليطلة يعني دخول إسبانيا عصرًا جديدًا يتَّسم بتنامي روح القوميَّة القوطيَّة؛ ذلك أنَّ طليطلة هي عاصمة المملكة القوطيَّة القديمة، وحاضرة إسبانيا الدينيَّة، ممَّا منح ملوك قشتالة مكانةً بين ملوك الإسبان الذين اعترفوا لهم بلقب الأباطرة.
وعلى الرغم من سقوط طليطلة بأيدي نصارى إسبانيا، فإنَّ المستعربين فيها ظلُّوا ملتزمين بالعربيَّة، وكانوا يُصدِّرون خطاباتهم بالبسملة، وكانوا يُقيمون قدَّاسهم المعروف بالإسبانية "ميشة" (أو "ميسة" باللغة القوطيَّة) حسب طريقة قدِّيسهم سان إيزيدور (Isidore de Seville) (560-636م) ويخلطون ذلك بالعربيَّة، ممَّا جعل النصارى الحاكمين يعتبرون هذا الطقس "طقسًا مستعربًا" ويُطالبونهم بالطقس الروماني، فأبى المستعربون، وتدخل ألفونسو السادس، فأبقى على الطقسين، وظلَّ مستعربو طليطلة يستعملون العربيَّة في صكوكهم ومعاملاتهم حتى أواخر القرن السادس عشر، وظلَّت اللغة العربيَّة -بعد سقوط طليطلة- تستعمل لغة رسميَّة لأكثر من خمسين وثلاثمائة سنة، وعثر الباحثون على أكثر من ألف وثيقة تمَّت كتابتها بعد سقوط المدينة، يتعلَّق أكثرها بالمعاملات الخاصَّة بالموريسكيِّين الذين لم يُغادروا طليطلة.
يرى كثيرٌ من الباحثين العرب أنَّه من حسن حظِّ الحضارة الإسلاميَّة أن سقطت طليطلة بأيدي نصارى إسبانيا في هذه المرحلة قبل ازدياد الشعور بالكره والعداء لكلِّ ما هو مسلم؛ إذ لم يتَّخذ ألفونسو السادس إجراءات عدائيَّة ضدَّ معالم الحضارة الإسلاميَّة، بل حاول أن يستفيد منها في تأسيس مملكته ورقيِّها؛ فاهتمَّ بالطراز المعماري الإسلامي ومزجه بالهويَّة النصرانيَّة، وأطلق الإمبراطور على نفسه "إمبراطور الملَّتين"، وسكَّ عملةً بأحرفٍ عربيَّة.
وفي عهد ألفونسو السابع (1126-1157م)، لجأ إلى طليطلة عدد من اليهود هربًا من بطش عبد المؤمن بن علي (524-558هـ= 1130-1163م) أوَّل خلفاء الموحدين، وعمل بعضهم مترجمين في مدرسة طليطلة تحت إشراف دون رايموندو الأول (Don Raimundo I)، رئيس أساقفة طليطلة (1126-1151م) الذي أنشأ فيها مكتبًا للترجمة سنة 1130م.
وقد بلغت الكتب التي ترجمها رايموندو 75 كتابًا وموسوعة في الرياضيات والفلك والطب والكيمياء والطبيعة وعلم النفس والمنطق والسياسة، وخلفه على أسقفية طليطلة يوحنا ابن داود (Juan Abendaud) وهو يهودي متنصِّر، ترجم كثيرًا من كتب الطبيعة والفلسفة وعاش في القرن الثاني عشر الميلادي، وكان يُملي النصَّ العربي بالرومانسيَّة [1] العامِّيَّة على دومنجو جونثالث (D.D. Gonzalez) (ت. 1181م) -نائب أسقف شقوبيَّة وكبير مستشاري قشتالة، فيصوغه جونثالث باللاتينيَّة الفصحى، وأقبل الطلاب الإسبان على مدرسة طليطلة، ونظرًا إلى أنَّهم لا يعرفون العربيَّة، فقد كانوا يلجأون إلى يهودي أو مستعرب يُترجم لهم حرفًا بحرفٍ من الكتب العربيَّة.
ولم يبقَ تعلُّم العربيَّة والاهتمام بالثقافة الإسلامية محصورًا في طبقة رجال الكنيسة أو المترجمين؛ بل كان بعض ملوك الإسبان من ضلع في ذلك مثل بدرو الأول ملك أراغون ( 1094-1104م) الذي كان يحب العلوم العربية، ويكتب بالعربية ويوقع بها. واحتفظ ألفونسو الثامن (1158-1214م) بالكتابة العربية على نقوده، وظلَّت المسكوكات الإسلاميَّة والفرنسيَّة عملة ممالك النصارى طوال أربعمائة سنة، ومثل ألفونسو التاسع (1188-1230م)، الذي أنشأ جامعة في طلمنكة (Salamanqua) وأصبحت من أكبر الجامعات الأوربِّيَّة تُضاهي جامعتي باريس وأكسفورد، وبلغ عدد طلَّابها في القرن السادس عشر الميلادي سبعة آلاف طالب، قدموا إليها من خارج إسبانيا، وقد أسهمت هذه الجامعة في نشر معارف العرب في بقيَّة أوربَّا، ويقال: إنَّه كان فيها 50 طابعًا، و80 كاتبًا، و18 ألف تاجر وصانع.
ألفونسو العاشر المعروف بالحكيم
وبلغ الاهتمام بنقل علوم العرب إلى إسبانيا النصرانيَّة ذروته في عصر ألفونسو العاشر المعروف بالحكيم (1252-1284م)، الذي قرَّب إليه علماء عربًا، وترجم كتبًا عربيَّةً إلى اللاتينيَّة، وأشرف بنفسه على أعمال الترجمة، وأنشأ في مرسية معهدًا للدراسات بمعاونة الفيلسوف المسلم أبي بكر بن أحمد الرقوطي (ت 744هـ=1344م)، الذي رأس مدرسة مرسية سنة 1269م، وتوافد عليه طلاب مسلمون ونصارى ويهود، ولم يُوفَّق هذا المعهد، فنقله ألفونسو إلى إشبيليَّة وأنشأ فيها مدرسةً عامَّةً للاتينيَّة والعربيَّة وجعل فيها أساتذة من المسلمين لتدريس الطب والعلوم، وكان يُعامل العالم المسلم أبا بكر الرقوطي باحترام بالغ، ويُغدق عليه، ويُرغِّبه في التنصُّر، وكان يقول له: "لو تنصَّرت وحصلت الكمال، كان لك عندي كذا، وكنت كذا. فكان يُجيبه بما يُقنعه، ولمـَّا خرج من عنده، قال لأصحابه: أنا عمري كلُّه أعبد إلهًا واحدًا، وقد عجزت عمَّا يجب له، فكيف حالي لو كنت أعبد ثلاثة كما طلب الملك مني". واهتم ألفونسو الحكيم بترجمة القصص العربية، ففي عام 1261م أمر بترجمة "كليلة ودمنة" و"ألف ليلة وليلة" إلى اللغة القشتاليَّة؛ وكلف رودريك كزيمنس، رئيس أساقفة طليطلة (1170-1247م)، بتدوين تاريخ إسبانيا منذ البدء إلى عام 1243م، والتاريخ العربي من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عصر الموحدين.
ولم يكن دور ألفونسو الحكيم توجيه المترجمين إلى الكتب المراد ترجمتها فحسب؛ بل كان يُشرف على النصوص ويُصحِّحها ويقف على صنع الآلات والأجهزة الفلكيَّة، حتى استطاع تنفيذ مشاريع علميَّة مهمَّة، منها:
1- الكتب الأربعة في نجوم الفلك الثامن.
2- الكتب الألفونسيَّة في أجهزة علم الفلك وأدواته وكتبه.
3- كتاب الزيج الألفونسي في دراسة التقاويم.
وقد لقيت هذه المجموعة اهتمامًا من المستعربين الإسبان؛ إذ قام مانويل سينوباس (Manuel Sinobas) بنشرها بمدريد في خمسة أجزاء، عام (1863-1867م)، كما أنَّ مجموعة السندباد من "ألف ليلة وليلة" التي أمر دون فادريك -أخو ألفونسو الحكيم- بترجمتها إلى الإسبانيَّة بعنوان: "مكايد النساء وحِيَلِهِنَّ" سنة 1253م، نشرها بونيلا في المجلَّد الرابع من مجموعة المكتبة الأندلسيَّة، وترجمها دياجو دي جانيثارا في القرن الخامس عشر، وماركوس بريث سنة 1530م، وبدرو دي لا فيرا سنة 1573م.
كما وضع ألفونسو الحكيم ألحان تراتيله الكنسيَّة على أساس الموسيقى العربيَّة، تأثُّرًا بالمطربين المسلمين الذين كانوا يَغْشُون قصور الملوك النصارى، ويتجلَّى تأثر نصارى إسبانيا بالموسيقى العربيَّة في بقاء الأسماء العربيَّة لكثيرٍ من الآلات الموسيقيَّة، مثل: البوق (albogue)، والعود (alaud)، والقيثارة (guitarra)، والرباب (rabel)، والدف (adufe). ومازالت آثار زرياب باقية في غناء السجيريا التي يُغنِّيها الغجر الأندلسيُّون، ومازال المطربون الأندلسيُّون يبدأون أغانيهم بمجس عربي: آه، آه، آه يا حبيبي. ويُؤكِّد المؤرِّخون الإسبان أنَّ الغناء الأندلسي (الفلامنكو) هو بقيَّةٌ من بقايا الغناء الأندلسي العربي، وأثَّرت الموشَّحات الأندلسيَّة في صياغة الأغاني الإسبانيَّة "الكنتيجات" (las cantigas)، وبقي نوعٌ من الزجل مستعملًا في سبك الأغاني في إسبانيا، ووُجِدَ في القرن السابع عشر نماذج منه.
ظهور طائفة المدجنين المسلمين
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ الملوك النصارى أبقوا على بعض المسلمين في المدن التي سقطت بأيديهم عُرِفوا باسم "المدجنين". وأصل اللفظة من دجن دجنًا ودجونًا؛ أي أقام في المكان وأَلِفَه، وهو يُوازي عند المسلمين مصطلح "ذمِّي" وضعًا لا معاملة، وقد حرَّف الإسبان لفظة مدجنين إلى "Mudejares"، وفي ظلِّ التعايش السلمي أبدع المدجنون فنًّا عمرانيًّا نُسب إليهم، وبقي واضحًا في بعض الكنائس والقصور، وقد تأثَّر المدجنون بالجوِّ النصراني الذي ساد مدنهم، وتسمُّوا بأسماء نصارى إسبانيا مثل أبي عبد الله محمد بن حسين البلنسي المعروف بابن رولان (Rolland)، وأبي عيسى لب (Lope) بن حسن التجيبـي المعروف بابن الخصب من بلنسية عالم بالقراءات تُوفِّي حوالي سنة 610هـ، والفقيه محمد بن عبيد الله بن بيبش (Vives) المخزومي (500-540هـ) من بلنسية.
خطة إسبانية لتنصر المسلمين
وتزامنًا مع حركة الاسترداد ووجود مسلمين تحت حكم نصارى إسبان، وضع رجال الكنيسة خطَّة للتنصير على المدى الطويل، تبدأ في تعليم المنصِّرين اللغة العربيَّة ودراسة القرآن والسنة؛ ففي عام 1250م قرَّر مجمع طليطلة الإنفاق على ثمانية من الرهبان الدومينيكان على رأسهم رايموندو مارتين (Raimondo Martin) (1230-1286م)، وهو قس دومينيكي كتالوني تعلَّم العربيَّة وقرأ القرآن وصحيحي البخاري ومسلم، وألَّف كتابه "خنجر الإيمان ضدَّ المسلمين واليهود"، وفي سنة 1259م قرَّر مجمع بلنسية فتح مدرسة للعربيَّة والعبريَّة في كتالونيا، وانتشرت مدارس الرهبان التي تُعنى باللغة العربية في أرجاء إسبانيا؛ إشبيلية سنة 1250م، وبرشلونة سنة 1259م، وميورقة سنة 1276م، وبلنسية سنة 1281م.
وبدعمٍ من البابوية وملوك النصارى تطوَّرت بعض مدارس الكاتدرائيَّات إلى جامعات أشهرها: جامعة بلنسية (1208م)، وسلمنكا (1227م)، ومعهد الدراسات الشرقية في طليطلة (1250م)، وجامعة بالما (Palma) (1280م)، وجامعة لشبونة (1290م)، وجامعة لريدا (1300م)، وجامعة بلد الوليد (1304م).
ومن رجال الكنيسة من اهتمَّ بالعلوم الإسلامية لأهدافٍ تنصيريَّةٍ، مثل: رايموندو لوليو (Raimundo Lulio) (1233-1315م)، وهو شاعرٌ وروائيٌّ ورياضيٌّ ومتصوِّفٌ ورحَّالة، وُلِدَ في بالما بجزيرة ميورقة، وتعلَّم العربيَّة والكتالونيَّة، وفي سنة 1276م أقنع ملك أراغون بإنشاء مدرسة للفرنسيسكان لتدريس العربيَّة، وقد تأثَّر لوليو ببعض الأساليب الدينيَّة عند المسلمين ونقلها إلى الكنيسة؛ كالاستهلال باسم المسيح مثلما يبتدئ المسلمون بحمد الله والصلاة والسلام على محمد صلى الله عليه وسلم، وفصل النساء عن الرجال في الكنائس، وتأثَّر بالمتصوِّفة للمسلمين كابن عربي (561-638هـ= 1165-1240م)، وكان لوليو يُجيد العربيَّة كتابةً وقراءةً ومحاورة، ووظَّف هذه المهارة في تنصير المسلمين.
الاهتمام باللغة العربية
ومن نصارى إسبانيا من درس اللغة العربيَّة بغرض التذوُّق الأدبي، مثل: خوان رويث (Juan Ruiz)، الذي ألَّف عام 1330م كتابه "الحب الطَّيِّب"، متأثِّرًا بالفلاسفة الأندلسيِّين وعلى رأسهم ابن حزم (384-455هـ= 994-1063م) في كتابه "طوق الحمامة"، وذكر رويث في كتابه أنَّه اتَّبع في تأليفه نهج الأندلسيِّين، حتى اللغة الرومانسية، وهي ضربٌ من اللاتينيَّة، تأثَّرت باللهجة المزدوجة بينها وبين العربية التي كان المولَّدون يستخدمونها فيما بينهم، وهي التي عُرِفت فيما بعد باللغة القشتاليَّة التي أصبحت اللغة الإسبانيَّة السائدة، وقد انتشر هذا المزيج اللغوي حتى بين القبائل العربية في الشمال، وهذا يُؤكِّد أنَّ اللغة الإسبانيَّة الحديثة كحضارة إسبانيا بوتقةٌ صُهِرَت فيها كلماتٌ من لغات الفاتحين عبر السنين.
_______________
الدكتور عبد الله بن عبد الرحمن الربيعي: الهويَّة الإسلاميَّة للحضارة الإسبانيَّة وموقف المؤرِّخين الإسبان منها، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض - المملكة العربية السعودية.
[1] اللغات الرومانسية: هي اللغات التي أصلها اللغة اللاتينيَّة، وتُعدُّ أحد فروع اللغات الهندوأوربِّيَّة، وأغلبيَّتها في جنوب أوربَّا، وأهمها هي الإيطالية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية والرومانية والكتلانية، وهي مشتقَّة من اللاتينيَّة العامِّيَّة (أو السوقيَّة) التي كانت لغة جنود وعبيد الإمبراطوريَّة الرومانيَّة، وهي لغة أهل قشتالة والأندلس (إسبانيا القديمة).
التعليقات
إرسال تعليقك