الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
إنَّ الإنسان -كما يُقال بحقٍّ- عدوُّ ما يجهل؛ لذا فالتعارف هو الضمانة دون أن يتحوَّل الإنسان المختلف إلى عدوٍّ، ولن يكون هناك تعارف حقيقي ما لم يَجرِ حوار
إنَّ الإنسان -كما يُقال بحقٍّ- عدوُّ ما يجهل؛ لذا فالتعارف هو الضمانة دون أن يتحوَّل الإنسان المختلف إلى عدوٍّ، ولن يكون هناك تعارفٌ حقيقيٌّ ما لم يَجرِ حوارٌ حقيقيٌّ مثمر بين الشعوب.
وإنَّ من أبرز آليَّات التعارف لتحقيق المصلحة المشتركة: الحوار، ولسنا نعني هنا الحوار التقليدي؛ الذي هو مجرَّد تبادل الكلمات بين الطرفين، وإنَّما نقصد الحوار الإيجابي المثمر، الهادف إلى تحقيق نتائج عمليَّة متمثِّلة في المصلحة المشتركة، حتى لو كانت هذه المصلحة مجرَّد المعرفة بالشعوب الأخرى، وسماع تعريفها لنفسها؛ فهذا في حدِّ ذاته مصلحة للإنسانيَّة كلِّها.
وإنَّه لم يبدأ مذهب من المذاهب ولم تنتشر فكرة من الأفكار في بادئ الأمر إلَّا عن طريق الحوار والإقناع، وبهذه الطريقة وحدها تجمعُ الأتباعَ والمتحمِّسين والمعجبين، ثُمَّ تبدأ رحلتها في عقول البشر؛ إمَّا بالحوار إلى نهاية الأمر، وإمَّا أن تضطر إلى المواجهة والصدام لتنشر نفسها، أو أن تكون بطبعها فكرةً صداميَّةً فتبدأ بحمل السلاح، فتكون بهذا قد اختارت شكل الحوار والمواجهة التي تُريد، إلَّا أنَّ البداية الأولى كانت دائمًا من الحوار.
جمال الحوار:
إنَّ الحوار المقصود ليس مجرَّد تبادل الكلمات، ولا هو الحوار العقيم الذي يبدو وكأنَّه غايةٌ في نفسه؛ إنَّما الحوار الذي نعنيه هو ما كان مُتَّصِفًا بالسِّمات التالية:
حوار هادف:
وهو الحوار الحريص على أن يصل إلى غاية، وهو يعني رغبة المتحاورين في تحقيق نتائج، ومن المهمِّ أن نعلم أنَّ الأصل اللغوي لكلمة "حوار" هو من الحَوْر، وهو: الرجوع عن الشيء وإِلى الشيء، والمحاورة: المجاوبة، والتحاور: التجاوب، وهم يَتَحاوَرُون؛ أي: يتراجعون الكلام، والمُحاوَرَة: مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة[1]؛ ومن ثَمَّ فكلُّ حوارٍ هادفٍ حقًّا إنَّما يحمل في طيَّاته تراجعًا عن المواقف المسبقة الموجودة قبل الحوار.
وهذا على عكس الجدال الذي هو -كما ورد في المعاجم العربيَّة- اللَّدَدُ في الخُصومة والقدرةُ عليها، ويُقال جادَلْت الرجل فجَدَلته جَدْلًا أَي غلبته، ورجل جَدِل: إِذا كان أقوى في الخِصام، وجادَله: أَي خاصمه، والجَدَل: شدَّة الخصومة[2].
ويُظْهِر المعنى اللغويُّ الفارقَ بين التعبيرين؛ فالحوار أخذٌ وردٌّ في ظلٍّ من التفاهم والتعاون وقصد التوصُّل إلى الحقِّ، وأمِّا الجدال فهو معركةٌ بين متصارعين، كلاهما يبغي أن يغلب خصمه ويظهر عليه؛ ولهذا كان أكثر ورود الجدال في القرآن الكريم بهذا المعنى المذموم، قال تعالى: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) [غافر: 5]. وحين يتحوَّل الحوار إلى جدال يوصي القرآن الكريم بترك هذا النوع من الحديث: (وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [الحج: 68، 69].
وهذا الحوار الهادف لا يكون إلَّا بين طرفين لديهما إرادة الوصول إلى نتيجة، أو كما قال الإمام ابن تيمية: "المناظرة والمحاجَّة لا تنفع إلَّا مع العدل والإنصاف"[3].
ولأنَّ وجود هدفٍ من وراء الحوار شيءٌ ضروريٌّ وحيوي؛ فقد احتفظت الذاكرة الإنسانيَّة بالتقدير لأفلاطون؛ ذلك أنَّ أفلاطون أخذ على عاتقه أن يتحدَّى السوفسطائيِّين، بنقل لفظ الجدل من معنى المناقشة المموَّهة إلى معنى المناقشة المخلصة التي تُوَلِّد العلم، وقد أجرى كتبه في صورة حوارات على لسان أستاذه سقراط[4].
حوار متواضع:
يتميَّز بالأدب واحترام الآخرين، "إنَّ من الخطأ البيِّن أن تظنَّ أنَّ الحقَّ لا يغار عليه إلَّا أنت، ولا يُحبُّه إلاَّ أنت، ولا يُدافع عنه إلَّا أنت، ولا يتبناه إلَّا أنت، ولا يخلص له إلَّا أنت، ومن الجميل وغاية النبل، والصدق الصادق مع النفس، وقوَّة الإرادة، وعمق الإخلاص؛ أن تُوقِفَ الحوار إذا وَجَدْتَ نفسك قد تغيَّر مسارها ودَخَلَتْ في مسارب اللجج والخصام، ومدخولات النوايا"[5].
إنَّ التكبُّر واعتقاد امتلاك الحقيقة المطلقة، وتمثيل الخير المطلق لا يُسهم في تشجيع الحوار؛ بل يُؤَجِّج الحقد والعداء، ومنطق "الأنا ضدَّ الباقي" منطقٌ يرفض الاعتراف بحقيقة التكامل والاعتماد المتبادل بين كلِّ شعوب العالم[6].
وفي القرآن الكريم نجد الوصيَّة بمراعاة هذه الحقيقة؛ ففي خطاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم مع المشركين: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ * قُلْ لاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) [سبأ: 24-26]. فعلى الرغم من أنَّ القرآن حقٌّ مطلقٌ لا شبهة فيه، ونزل على رسولٍ لا شكَّ في صدقه وأمانته ونزاهته وكفايته في التلقِّي والتبليغ، فإنَّه في مجال الحوار يُراعي هذه الطبيعة، التي لو لم تتوفَّر في حوارٍ لكان عبثًا مذمومًا، ولأثار القلوب والنفوس ودفعها باتجاه عدم السماع للكلام.
حوار محترم:
ولا بُدَّ للحوار أن يحترم الآخرين: عقائدهم وثقافتهم وأعرافهم وعاداتهم وتقاليدهم، لا يُمكن أن ينشأ حوارٌ لا يتحقَّق فيه هذا الاحترام، "ليس الحوار مجرَّد تبادلٍ للرأي بين طرفين أو أكثر، إنَّما هو "سلوكٌ" يقوم على مقوِّمَاتٍ تجعل منه عمليَّةً أخلاقيَّةً وفكريَّةً هادفة، قد لا تنتهي بالضرورة إلى تبنِّي أحد الطرفين لرأي الآخر؛ حيث تقلُّ احتمالات تحقيق هذا في كثيرٍ من الأحوال؛ ومن ثَمَّ فإنَّ ما لا يقلُّ عن ذلك أهميَّة أن يتحقَّق "تفاهم" و"تقدير" وعمل مشترك "لنزع فتيل" ما يصحب المواقف المتصارعة من انفعالاتٍ حادَّة"[7].
إنَّ الحوار وسيلةٌ للتعارف أو التفاهم أو التعاون؛ تعارف بين أطرافٍ تجهل بعضها، أو تفاهم بين أطرافٍ متنازعة، أو تعاون بين أطرافٍ متحالفة.. في كلِّ هذه الحالات يحتاج جميع الأطراف إلى أن يُحافظوا على قدرٍ من الاحترام لخصوصيَّات الأطراف الأخرى؛ ذلك أنَّ إهانة هذه الخصوصيَّات إنَّما هو اعتداءٌ على الهويَّة، وهو أمرٌ كفيلٌ بتفجير الحوار؛ ومن ثَمَّ إشعال النزاع.
***
بعد كلِّ هذا يجب أن نُؤَكِّدَ على الأهميَّة البالغة للحوار، ثُمَّ نُؤَكِّد بعد ذلك بشكلٍ خاصٍّ على أهميَّة الحوار في المجتمعات التي بُنِيَتْ على تنوُّعَاتٍ عديدة، عرقيَّة أو دينيَّة أو ثقافيَّة أو لغويَّة؛ ففي هذه المجتمعات تحديدًا إمَّا الحوار وإمَّا خراب الديار.
كذلك لا غنى للحوار في كلِّ فئةٍ أو طبقةٍ أو مستوى من البشر، إلَّا إنَّه عند القادة والسياسيِّين وأصحاب القرار أكثر أهميَّة، ولا بُدَّ لهؤلاء -على وجه الخصوص- أن تترسَّخ عندهم ثقافة الحوار؛ إذ لو أنَّهم لم يُدِيرُوا بلادهم بمنطق الحوار فبلا شَكَّ سيُدِيرُونها بمنطق العنف والقهر، وهو ما يدخل بالأمم في نفق من الاستبداد، الذي يُمارس القهر فيه فيُوَلِّد المقاومة والعنف، وهو ما يُنتج مزيدًا من القسوة في المقابل.. وهكذا، في هذه الدائرة الجهنميَّة التي تتكرَّر عبر التاريخ ولا يبدو أنَّ أحدًا يُريد أن يَتَّعِظَ بها فلا يُكَرِّرها.
ولْيَعْلَم القادة وأصحاب القرار أنَّ المعارضة فطرةٌ إنسانيَّةٌ موجودةٌ في كلِّ البشر، وفي كلِّ الدول وفي كلِّ الأمم، فهي لا تُمَثِّل خطرًا ولا تعني أنَّ وراءها مؤامرة، ولا تَنتج بالضرورة عن عداوةٍ شخصيَّة لهم، والاعتراف بأنَّها فطرةٌ إنسانيَّة؛ يعني أنَّ القائد أو الرئيس أو صاحب القرار لا بُدَّ سيُواجه معارضةً من آخرين، وعليه أن يختار -حينئذٍ- هل يُواجه هذه الفطرة بالحوار أم بالدمار.
وأشدُّ الناس احتياجًا للحوار هم طائفة العلماء والمفكرين؛ فهؤلاء هم العقول التي تتشكَّل أولًا بالحوار والأخذ والردِّ، ثُمَّ إنَّهم يُشَكِّلون العقول والقلوب، ويقودونها نحو تفعيل هذه الأفكار في الواقع العملي، ومثل هؤلاء الذين يُمَثِّلُون عقل الأمم إذا لم يكونوا على استعدادٍ للحوار فنحن على شفا عالَمٍ تتحدَّث فيه الأسلحة والقنابل، ولا شيء آخر.
الحوار مع الخوارج .. نموذجًا
في عهد أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه حدثت مجموعةٌ من الفتن السياسيَّة في داخل الأُمَّة الإسلاميَّة، وكان من أشدِّهَا فتنة الخوارج.
وسُمُّوا بالخوارج لأنَّهم خرجوا على عليٍّ رضي الله عنه ورفضوا سياسته، ورأوا أنَّه لا يعمل وَفق الشريعة الإسلاميَّة كما جاءت في كتاب الله وسُنَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولقد كان الخوارج قومًا مجتهدين في العبادة إلى أقصى حدٍّ، متطرِّفين في فهم النصوص والأخذ بها، مشدِّدين على أنفسهم ومَنْ حولهم، حتى أَدَّى بهم هذا إلى أن رفعوا السلاح في مواجهة المسلمين وقتلوا منهم، وخاضوا تمرُّدًا ضدَّ الدولة، ومثَّلُوا في هذه اللحظات خطرًا بالغًا، وبهذا وصلوا في مواجهة الدولة إلى المرحلة الأخيرة.
وهنا برز في المشهد العالم الفقيه عبد الله بن عبَّاس رضي الله عنهما، ابن عمِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وابن عمِّ أمير المؤمنين عليٍّ رضي الله عنه، واستأذن في أن يُحاورهم، ولقد بدت هذه الخطوة وكأنَّها "عمليَّةُ فدائيَّة"، حتى إنَّ عليًّا رضي الله عنه تخوَّف على ابن عمِّه منهم، وفي هذا دليلٌ على ما وصل إليه القوم من الحدَّة والتطرُّف، وسنرى كيف أنَّ بعض مَنْ حملوا السلاح فوصلوا في مواجهة الدولة إلى المرحلة الأخيرة كانوا على استعدادٍ للسماع، بل ولتغيير المواقف؛ فهو لهذا حوارٌ جديرٌ بأن يتأمَّله كلُّ من استرعاه الله رعيَّة.
قال ابن عبَّاس: لما اعتزلت الحرورية وكانوا على حِدَّتهم، قلتُ لعليٍّ: يا أمير المؤمنين أخِّر الصلاة لَعَلِّي آتي هؤلاء القوم فأُكَلِّمهم قال: إنِّي أتخوفهم عليك. قلتُ: كلَّا، إن شاء الله. فلبستُ أحسن ما قدرتُ عليه من هذه اليمانيَّة، ثُمَّ دخلتُ عليهم، وهم قائلون في نحر الظهيرة، فدخلت على قومٍ لم أَرَ قومًا أشدَّ اجتهادًا منهم، أيديهم كأنها ثَفِنُ الإبل ووجوههم معلنة من آثار السجود، فدخلت فقالوا: مرحبا بك يا ابن عبَّاس، لا تُحدِّثوه. قال بعضهم: لنحدِّثنَّه[8].
- قلتُ: أخبروني ما تنقمون على ابن عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه، وأوَّل من آمن به[9] وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معه؟
- قالوا: ننقم عليه ثلاثًا.
- قلتُ: ما هن؟ قالوا: أولهن: أنَّه حَكَّم الرجال في دين الله؛ وقد قال الله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) [الأنعام: 57].
- قلتُ: وماذا؟ قالوا: قاتل، ولم يَسْب ولم يغنم؛ لئن كانوا كفارًا لقد حَلَّت أموالهم، وإن كانوا مؤمنين لقد حرمت عليه دماؤهم.
- قلتُ: وماذا؟ قالوا: ومحا نفسه من أمير المؤمنين[10].
- قلتُ: أرأيتم إن قرأتُ عليكم من كتاب الله المـُحْكَم، وحَدَّثْتُكم من سُنَّة نبيكم صلى الله عليه وسلم ما لا تُنكرون أترجعون؟ قالوا: نعم[11].
- قال: قلتُ: أمَّا قولكم: إنَّه حَكَّم الرجال في دين الله. فإنَّه تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)، إلى قوله: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) [المائدة: 95]. وقال في المرأة وزوجها: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا) [النساء: 35]. أنشدكم الله أفَحُكم الرجال في دمائهم وأنفسهم وصلاح ذات البين أحقُّ أم في أرنب ثمنها ربع درهم؟
- قالوا: اللهمَّ في حقن دمائهم وصلاح ذات بينهم.
- قال: أخرجتُ من هذه؟ قالوا: نعم.
- وأمَّا قولكم: إنَّه قتل ولم يَسْب ولم يغنم. أتسبون أُمَّكم؟! أم تستحلُّون منها ما تستحلُّون من غيرها؟ إن قلتم: نعم. فقد كفرتم، وإن زعمتم إنَّها ليست بأُمِّكُم فقد كفرتم وخرجتم من الإسلام؛ إنَّ الله تبارك وتعالى يقول: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) [الأحزاب: 6]. وأنتم تتردَّدُون بين ضلالتين، فاختاروا أيهما شئتم، أخرجتُ من هذه؟ قالوا: اللهمَّ نعم.
- قال: وأمَّا قولكم: محا نفسه من أمير المؤمنين. فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا يوم الحديبية عليًّا أن يكتب بينه وبين قريش كتابًا، فقال: "اكْتُبْ هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم". فقالوا: والله لو كُنَّا نعلم أنَّك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمَّد بن عبد الله. فقال: "وَاللَّهِ! إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي اكْتُبْ يَا عَلِيُّ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ". رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفضل من عليٍّ. أخرجت من هذه؟!
قالوا: اللهمَّ نعم.
فرجع منهم عشرون ألفًا، وبقي منهم أربعة آلاف[12].
ترى هل كان بالإمكان الوصول إلى مثل هذه النتيجة بغير الحوار؟ ويا ترى كم ضاعت من مقدَّرات البلاد ومن الأرواح والأموال والجهود؛ لأنَّ أصحاب التفكير وأصحاب القرار لم يسلكوا مثل هذا السبيل؟!
صحيحٌ أنَّ الحوار لن يُنْهِيَ كلَّ المشكلات، وأنَّه بعد هذا الحوار ظلَّ في القوم أربعة آلاف لم يقتنعوا، إلاَّ أنَّ الحوار قد أخرج لنا أربعة أخماس المتمرِّدين؛ أي أنَّه نجح مع أربعةٍ من كلِّ خمسةٍ من الفئة المستهدفة، ولم ينجح مع واحدٍ فقط.
هذا والأمر لم يَعْدُ أن يكون حوارًا فقط، ولم يَرْقَ إلى اتفاق أو معاهدة، ما يعني أنَّ الحوار -وهو أبسط مراحل التواصل- ينبغي أن يكون منهجًا وثقافةً وأسلوبًا عامًّا في إدارة الخلافات.
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] الجوهري: الصحاح، باب الراء فصل الحاء 2/640، ابن منظور: لسان العرب، مادة حور 4/217، والرازي: مختار الصحاح, ص167.
[2] ابن منظور: لسان العرب، مادة جدل 11/103.
[3] ابن تيمية: مجموع الفتاوى 4/109.
[4] وبسببٍ من هذا يختلف الباحثون في نسبة الأقوال إلى سقراط وأفلاطون؛ إذ هو غير معروفٍ على وجه الحقيقة ما إذا كانت هذه الأقوال من أفكار سقراط ينقلها تلميذه، أم هي من أفكار أفلاطون يُجريها على هيئة حوار على لسان أستاذه.
[5] صالح بن حميد: أصول الحوار، ص19.
[6] محمد سعدي: مستقبل العلاقات الدولية، ص356.
[7] سعيد إسماعيل علي: الحوار ثقافة ومنهجًا، ص229.
[8] اختلافهم في قبول الحوار دليلٌ على أنَّ الفئات المتطرِّفة مهما بلغت تكون مستعدةً للحوار والتجاوب، ويظلُّ الرافضون للحوار قلَّةً صغيرةً متطرفةً في الفئة المتطرِّفة.
[9] وهنا نبصر تلطفًا وذكاء من ابن عبَّاس رضي الله عنهما في وصف علي t الذي هو خصمهم، فهو يُؤكِّد على قربه ومكانته لدى النبيِّ r الذي يُجلُّونه ويُوقِّرونه ويتَّبعونه، كما أنَّه لم يصف عليًّا بالأمير أو الخليفة ليخرج من عنصرٍ يُثير الأزمة، وإنَّما بدا الحوار وكأن عليًّا خصم عادي من عامة المسلمين يُحاول ابن عباس أن يصلح بينهم، ولو أنَّه قال: ماذا تنقمون على أميركم أو خليفتكم أو جابههم بوجوب طاعة وليِّ الأمر.. وما إلى ذلك، ما كان قد بلغ معهم شيئًا، ولا كان أحدٌ قد ظلَّ ليسمعه.
[10] لقد ظلَّ ابن عبَّاس يسمعهم حتى فرغوا من كلامهم، وكانوا كلَّما قالوا سببًا طلب منهم أن يسمع الذي بعده حتى انتهوا، إنَّها رحابة صدرٍ ينبغي أن يتحلَّى بها الإنسان في حواره مع المخالف له، وفي ذلك أثرٌ من سنَّة النبيِّ r وقوله: "أفرغت يا أبا الوليد؟".
[11] وهنا وضع المرجعيَّة التي يتقبَّلها الجميع، فيكون حوارًا هادفًا مثمرًا.
[12] رواه أحمد (3187) وقال شعيب الأرناءوط في تعليقه: إسناده حسن. والحاكم (2656) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، والطبراني في المعجم الكبير (10620)، وقال الهيثمي: رواه الطبراني وأحمد ببعضه ورجالهما رجال الصحيح. مجمع الزوائد 6/359 (10450).
التعليقات
إرسال تعليقك