التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
يعتبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو المؤسِّس للدولة الإسلامية الشاملة بالمعايير الحضارية المعروفة، وبالصورة التي تنافس الإمبراطوريات الكبرى.
يعتبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو المؤسِّس للدولة الإسلامية الشاملة بالمعايير الحضارية المعروفة، وبالصورة التي تنافس الإمبراطوريات الكبرى، ولا شك أن الفضل الأعظم في التأسيس راجع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي وضع نواة الدولة في المدينة، وضرب المثل في كل جزئية من جزئيات الحياة.
والفضل أيضًا لأبي بكر الذي حفظ النبتة الناشئة من الاقتلاع بريح الردَّة ولكن دولته كانت أشبه بقيادة العمليَّات العسكريَّة؛ إذ شُغِلَت الدولة من اليوم الأوَّل لوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حروب الرِّدَّة، وخرجت من هذه الحروب مباشرةً وفي الشهر نفسه إلى حروب العراق، وبعهدها بشهورٍ خمسة بدأت حروب الشام، وانتهى العامان اللذان حكمهما أبو بكر رضي الله عنه والحروب مشتعلةٌ على الجبهتين، ثم جاء عمر رضي الله عنه ليأخذ كلَّ جزئية فيقيم منها مؤسسة، وبذا قامت دولة المؤسَّسات في زمانه.
عمر يقيم دولة المؤسَّسات:
في عهد عمر رضي الله عنه اختلف الأمر كثيرًا، على الرَّغم من استمرار الحروب على الجبهتين العراقيَّة والشاميَّة، بل واتِّساعها لتشمل جبهات فارس، ومصر، وليبيا؛ فقد اتَّسعت الدولة، وزاد عدد سكانها، وكثرت مواردها، وتعدَّدت مشاكلها، وزادت تحدِّيَّاتها، وصارت هناك مسئوليَّاتٌ كبرى في مجالاتٍ أخرى كثيرةٍ غير الحرب، وصار على الدولة أن توفِّر لرعاياها المتزايدين خدماتٍ في شتَّى المجالات الاقتصاديَّة، والاجتماعيَّة، والأمنيَّة، وغير ذلك.
استفادة عمر من الأنظمة الفارسية والبيزنطية:
أبرز عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا الموقف مرونةً عظيمة، وقرَّر الاستفادة من الجهود السَّابقة التي بذلها الفرس والبيزنطيُّون في هذا المجال، ولم يجد بأسًا في النَّقل عنهم طالما أنَّ هذا النقل لا يتعارض مع أصول الإسلام، ومن ذلك ما سيأتي إن شاء الله.
أولًا وثانيًا: تدوين الدواوين: (الإحصاء السكاني، والوزارات)
كلمة الدواوين كلمة محيِّرة نسبيًّا؛ لأنها استخدمت في عهد عمر بمعنى، واستخدمت لاحقًا بغيره، في عهد عمر كانت تعني الإحصاء السكاني، سواء في المدينة أو في الهيئة، فهناك ديوان للمدينة أنشأه عمر بنفسه، وهناك ديوان للبصرة مثلًا أول من قام به هو المغيرة بن شعبة لما وليها لعمر، كما أن هناك ديوانًا للجند، فيه تسجيل أسماء الجند.
وفي عهد عمر أيضًا، وبعده أكثر، كانت تستخدم كلمة الديوان للتعبير عن الوزارات التخصصية، فديوان الجند ليس مجرد الأسماء، إنما هو وزارة الحربية بكل متطلباتها، هذا الخلط هو الذي أدَّى إلى التضارب في تفسير الروايات، وفي تحديد تواريخ إنشاء الدواوين.
يقول الطبري كانت بداية إنشاء الدواوين في العام الخامس عشر من الهجرة، وهذا كما نقل الطبري[1]، بينما جعلها الماوردي في العام العشرين[2]، والجزم صعبٌ لعدم دقَّة الروايات المبيِّنة لتاريخ البداية، ولكنَّ الجميع متَّفقٌ على أنَّ هذا العمل من أعمال عمر رضي الله عنه.
ومن هذه الدواوين ديوان الإنشاء، وعلى الرغم من أنه من المعروف أن أول مَنْ أنشأ ديوان الإنشاء هو عبد الملك بن مروان[3]، فإن بدايات هذا العمل كانت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك لكثرة الرسائل المتبادَلة مع الولاة والقادة، أو الرسائل المتبادَلة مع البلاد الأخرى.
واستتبع ذلك الاهتمام بالبريد، وتوفير كيانٍ مختصٍّ به، وتقسيم الطرق إلى محطَّاتٍ بريديَّةٍ على مسافاتٍ متقاربة، وقد زُوِّدت كلُّ محطَّةٍ بالحرس، والزاد، والماء، أيضًا ديوان الجند وديوان الشرطة الداخلية.
وأيضًا ديوان التضامن الاجتماعي وسُمِّي هذا الديوان بديوان العطاء لأنَّ أعطيات المسلمين زادت جدًّا في عهد عمر رضي الله عنه، وصارت محدَّدةً بأرقامٍ معيَّنة.
ثالثًا: بيت المال:
تطوَّر بيت المال لاحقًا ليُصبح وزارة الماليَّة الأولى في الإسلام، كان هذا البيت ضروريًّا جدًّا لكثرة الأموال التي وردت إلى الدولة عن طريق غنائم الحروب، أو خراج أراضي البلاد المفتوحة، أو الجزية المجموعة من غير المسلمين.
رابعًا: مؤسَّسة القضاء:
كان عمر رضي الله عنه أول من أسس مؤسَّسة القضاء الأولى في الإسلام، فلم يكن القضاء منفصلًا عن أعمال الوالي في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك في زمن أبي بكر رضي الله عنه، وصدرًا من عهد عمر رضي الله عنه، بمعنى أنَّ الوالي في منطقة من المناطق كان يتولَّى كذلك القضاء بين الناس، والإدلاء بالحكم الشَّرعي في القضايا المختلفة.
خامسًا: السلطة التشريعية:
وكان ذلك من خلال استبقاء كبار الصحابة والعلماء في المدينة للمساهمة في وضع التشريعات، والمصادقة عليها، ورأينا أمثلة كثيرة على ذلك مثل: حد الخمر وتقدير الدية على القاتل وحكم الأراضي المفتوحة، ومسائل الميراث المعقَّدة.
سادسًا: فصل السلطات: وذلك من خلال فصل السلطات التشريعية عن التشريعات القضائية والتنفيذية.
سابعًا: ظهور الوظائف الحكومية:
أخذت الدولة شكلًا واضحًا في عهد عمر رضي الله عنه، وصار لها موظَّفون في مجالاتٍ مختلفة، ولم يكن هذا هو الحال أيَّام رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في عهد الصدِّيق رضي الله عنه، بل كان الرجل يعمل في مهنته وفي الوقت نفسه يخدم الدولة في مجال الجيش، أو المراسلات، أو جمع الصدقات.
على سبيل المثال صار هناك كاتبٌ للديوان، وهو موظَّفٌ يتفرَّغ لكتابة شئون الدولة في البلد المعيَّن؛ فكان كاتب عمر رضي الله عنه في المدينة زيد بن ثابت رضي الله عنه، وكذلك معيقيب رضي الله عنه، وكان كاتبه على ديوان الْبَصْرَة عَبْدَ اللهِ بْنَ خلفٍ الْخُزَاعِيَّ، وكاتبه عَلَى ديوَان الْكُوفَة أَبُو جبيرَة بْن الضَّحَّاك الْأنْصَارِيُّ[4]. بل كان هناك كتبةٌ للقضاة كذلك؛ مثل مُسْلِم بن مِشْكَم الذي كان كاتبَ أبي الدَّرداء رضي الله عنه عندما تولَّى قضاء دمشق[5].
وكان يَرْفَأُ رضي الله عنه يعمل حاجبًا لعمر رضي الله عنه، وكان يسار بن نمير يعمل خازنًا لبيت المال[6]، وفي بعض الأوقات تولَّى هذه المسئوليَّة الأخيرة عبد الله بن الأرقم[7].
ثامنًا: الرقابة الإدارية:
عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ إِنِ اسْتَعْمَلْتُ عَلَيْكُمْ خَيْرَ مَنْ أَعْلَمُ، وَأمَرْتُهُ بِالْعَدْلِ، أَقَضَيْتُ مَا عَلَيَّ؟»، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «لَا، حَتَّى أَنْظُرَ فِي عَمَلِهِ، أَعَمِلَ مَا أَمَرْتُهُ أَمْ لَا»[8].
تاسعًا: حماية المستهلك:
وقد جعل عمر رضي الله عنه مسئوليَّة الرِّقابة على السوق لسُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ العَدَوِيِّ، وهو من التَّابعين الصالحين الذين كانوا يُصَلُّون بالناس صلاة التراويح في رمضان، وهو ابن الصحابيَّة الجليلة الشِّفَاء بنت عبد الله رضي الله عنها[9]، وبالمناسبة فإنَّه لم يثبت بروايةٍ صحيحةٍ أنَّ هذه المرأة كانت مشرفةً على السُّوق أثناء عهد عمر رضي الله عنه[10]، بل كان ابنها كما بيَّنَّا. كما تولَّى مسئوليَّة السُّوق كذلك في بعض الأوقات السَّائب بن يزيد رضي الله عنه، وعبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي[11].
عاشرًا: ترسيخ الشورى كوسيلة لإدارة الدولة:
كانت الشورى مطبَّقة منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن وجود الوحي كان يجعل الكثير من القضايا معلَّقة في انتظار الوحي الإلهي، أما في عهد أبي بكر، ثم في عهد عمر كانت الشورى بصورة أكبر، ومع انقطاع الوحي، صار العمل بالشورى أمرًا لازمًا، ويعود الفضل لعمر في جعله عملًا مؤسَّسيًّا[12].
[1] الطبري: تاريخ الرسل والملوك (دار التراث)، 3/613.
[2] أبو الحسن الماوردي: الأحكام السلطانية (دار الحديث)، ص299.
[3] عبد المنعم ماجد: تاريخ الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى، ص36.
[4] خليفة بن خياط: تاريخ خليفة بن خياط، ص156.
[5] ابن سعد: الطبقات الكبرى، 7/313.
[6] البخاري: التاريخ الكبير، 8/420.
[7] خليفة بن خياط: تاريخ خليفة بن خياط، ص156.
[8] جامع معمر بن راشد (11/ 326).
[9] ابن الأثير أبو الحسن: أسد الغابة في معرفة الصحابة، 2/547.
[10] ابن العربي: أحكام القرآن، 3/482.
[11] ابن سعد: الجزء المتمم للطبقات [الطبقة الخامسة فيمن قبض رسول الله وهم أحداث الأسنان]، 2/228.
[12] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا: عمر بن الخطاب وتأسيس الدولة
التعليقات
إرسال تعليقك