التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
ما هي أغرب قصة إسلام في مكة؟
عادة ما يسلم الناس عند سماع القرآن، أو عند مناقشة مع صديق عن الدين، أو عند رؤية خلق رفيع من أحد المسلمين، لكن أن يسلم الإنسان نكاية في أحد، ورغبة في إيصال أكبر درجة من الأذى لعدوه، ولو عن طريق اعتناق الدين المخالف له، فهذا أغرب سبب للإسلام!
تلك هي قصة إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وهي قصة شهدتها الكعبة في العام السادس من النبوة، والقصة جاءت في ابن إسحاق، والطبري، وكذلك الطبراني، وبألفاظ متقاربة، وهي بمجموعها ترقى إلى درجة الحسن إن شاء الله
وسنعتمد هنا على رواية الحاكم: ذكر الحاكم أَنَّ أَبَا جَهْلٍ اعْتَرَضَ لِرَسُولِ اللهِ عِنْدَ الصَّفَا، فَآذَاهُ وَشَتَمَهُ وَقَالَ فِيهِ مَا يُكْرَهُ مِنَ الْعَيْبِ لِدِينِهِ، وَالتَّضْعِيفِ لَهُ، «فَلَمْ يُكَلِّمْهُ رَسُولُ اللهِ r»[1]، يقول الراوي: وَمَوْلَاةٌ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ جُدْعَانَ التَّيْمِيِّ فِي مَسْكَنٍ لَهَا فَوْقَ الصَّفَا تَسْمَعُ ذَلِكَ[2]، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ، فَعَمَدَ إِلَى نَادِي قُرَيْشٍ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَجَلَسَ مَعَهُمْ[3]، وَلَمْ يَلْبَثْ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْ أَقْبَلَ مُتَوَشِّحًا قَوْسَهُ رَاجِعًا مِنْ قَنْصٍ لَهُ، وَكَانَ صَاحِبَ قَنْصٍ يَرْمِيهِ وَيَخْرُجُ لَهُ، وَكَانَ إذَا رَجَعَ مِنْ قَنْصِهِ لَمْ يَصِلْ إلَى أَهْلِهِ حَتَّى يَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ، وَكَانَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَمُرَّ عَلَى نَادٍ مِنْ قُرَيْشٍ إلَّا وَقَفَ وَسَلَّمَ وَتَحَدَّثَ مَعَهُمْ، وَكَانَ أَعَزَّ قُرَيْشٍ، وَأَشَدُّهَا شَكِيمَةً، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكًا عَلَى دَيْنِ قَوْمِهِ، فَجَاءَتْهُ الْمَوْلَاةُ وَقَدْ قَامَ رَسُولُ اللهِ r لِيَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ، فَقَالَتْ لَهُ: يَا أَبَا عُمَارَةَ، لَوْ رَأَيْتَ مَا لَقِيَ ابْنُ أَخِيكَ مُحَمَّدٍ مِنْ أَبِي الْحَكَمَ آنِفًا، وَجَدَهُ هَا هُنَا، فَآذَاهُ وَشَتَمَهُ، وَبَلَغَ مِنْهُ مَا يُكْرَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ فَعَمَدَ إِلَى نَادِي قُرَيْشٍ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَجَلَسَ مَعَهُمْ وَلَمْ يُكَلِّمْهُ مُحَمَّدٌ.
فَاحْتَمَلَ حَمْزَةُ الْغَضَبَ لِمَا أَرَادَ اللهُ مِنْ كَرَامَتِهِ، فَخَرَجَ سَرِيعًا لَا يَقِفُ عَلَى أَحَدٍ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ، يُرِيدُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ مُعِدًّا لأَبِي جَهْلٍ أَنْ يَقَعَ بِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ نَظَرَ إِلَيْهِ جَالِسًا فِي الْقَوْمِ فَأَقْبَلَ نَحْوَهُ، حَتَّى إِذَا قَامَ عَلَى رَأْسِهِ رَفَعَ الْقَوْسَ فَضَرَبَهُ عَلَى رَأْسِهِ ضَرْبَةً مَمْلُوءَةً، وَقَامَتْ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ إِلَى حَمْزَةَ لِيَنْصُرُوا أَبَا جَهْلٍ، فَقَالُوا: مَا نَرَاكَ يَا حَمْزَةُ إِلَّا صَبَأْتَ. فَقَالَ حَمْزَةُ: وَمَا يَمْنَعُنِي وَقَدِ اسْتَبَانَ لِي ذَلِكَ مِنْهُ، أَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ، وَأَنَّ الَّذِي يَقُولُ حَقٌّ، فَوَاللهِ لَا أَنْزِعُ، فَامْنَعُونِي إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: دَعُوا أَبَا عُمَارَةَ، لَقَدْ سَبَبْتُ ابْنَ أَخِيهِ سَبًّا قَبِيحًا[4]! وَتمَّ حَمْزَةُ عَلَى إِسْلَامِهِ، وَتَابَعَ رَسُولَ اللهِ، فَلَمَّا أَسْلَمَ حَمْزَةُ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَدْ عَزَّ وَامْتَنَعَ، وَأَنَّ حَمْزَةَ سَيَمْنَعُهُ، فَكَفُّوا عَنْ بَعْضِ مَا كَانُوا يَتَنَاوَلُونَهُ وَيَنَالُونَ مِنْهُ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ سَعْدٌ[5] حِينَ ضَرَبَ أَبَا جَهْلٍ، فَذَكَرَ رَجَزًا غَيْرَ مُسْتَقَرٍّ أَوَّلُهُ: ذُقْ أَبَا جَهْلٍ بِمَا غَشِيَتْ.
قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ حَمْزَةُ إِلَى بَيْتِهِ فَأَتَاهُ الشَّيْطَانُ، فَقَالَ: أَنْتَ سَيِّدُ قُرَيْشٍ اتَّبَعْتَ هَذَا الصَّابِئَ وَتَرَكْتَ دَيْنَ آبَائِكَ، لَلْمَوْتُ خَيْرٌ لَكَ مِمَّا صَنَعْتَ. فَأَقْبَلَ عَلَى حَمْزَةَ شَبَهٌ (أو أقبل حمزة على نفسه)، فَقَالَ: مَا صَنَعْتُ؟ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ رُشْدًا فَاجْعَلْ تَصْدِيقَهُ فِي قَلْبِي وَإِلَّا فَاجْعَلْ لِي مِمَّا وَقَعْتُ فِيهِ مَخْرَجًا. فَبَاتَ بِلَيْلَةٍ لَمْ يَبِتْ بِمِثْلِهَا مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ[6]، حَتَّى أَصْبَحَ فَغَدَا عَلَى رَسُولِ اللهِ r فَقَالَ: ابْنَ أَخِي، إِنِّي وَقَعْتُ فِي أَمَرٍ لَا أَعْرِفُ الْمَخْرَجَ مِنْهُ، فَحَدِّثْنِي حَدِيثًا فَقَدِ اسْتَشْهَيْتُ يَا ابْنَ أَخِي أَنْ تُحَدِّثَنِي. «فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ r فَذَكَّرَهُ وَوَعَظَهُ وَخَوَّفَهُ وَبَشَّرَهُ»، فَأَلْقَى اللهُ فِي نَفْسِهِ الإِيمَانَ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ، فَقَالَ: أَشْهَدُ إِنَّكَ لَصَادِقٌ شَهَادَةَ الْصِّدْقِ، فَأَظْهِرْ يَا ابْنَ أَخِي دِينَكَ، فَوَاللهِ مَا أُحِبُّ أَنْ لِي مَا أَلْمَعَتِ الشَّمْسُ، وَإِنِّي عَلَى دِينِي الأَوَّلِ. قَالَ: فَكَانَ حَمْزَةُ مِمَّنْ أَعَزَّ اللهُ بِهِ الدِّينَ[7].
وتعليقًا على هذا الموقف نقول: لشيء ما في قلب حمزة أراد الله تعالى له الهداية فسارت الأمور في هذا الاتِّجاه، أيضًا الظلم الشديد قد يكون مستفزًّا لبعض الناس، فيحرِّك ذلك شيئًا في قلوبهم لم تحرِّكه الكلمات والحجج.
كذلك ما بين طرفة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال، فإسلام حمزة، ومن بعده بثلاثة أيام عمر، سيغيِّر اللهُ به المرحلة التاريخية برمَّتها، وهذا دون إعداد من المسلمين! ومن اللافت للنظر متابعة التغيُّر الهائل في حياة حمزة قبل الإسلام وبعده، فلم يعد الصيد واللهو شاغلَيْن له، بل صار همُّه الإسلام، والسر في كل هذا عظمة الإسلام التي تبدو في هذا التحوُّل، فمن سيِّد على بطن محدود من بطون قريش انتقل حمزة إلى كونه سيِّدًا على كلِّ الشهداء في الدنيا، فالعزُّ كلُّ العزِّ في الدين!
[1] هذا الموقف متكرِّر في السيرة، ولم يكن أبو طالب يتمكَّن من الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل موقف، وإلا اشتعلت مكة حروبًا مع كل بطون قريش. غير أن هذه المرة أراد اللهُ تعالى أن تسير الأمور في مسار مختلف، وكلُّ شيء بتقدير الله تعالى، وهو القادر على الجمع بين المتناقضات، وهو الذي يخرج الحيَّ من الميت، ويخرج الميت من الحيِّ، وهو الذي يخرج من بين الفرث والدَّمِّ لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين.
[2] لا نعرف هذه المولاة، ولا مصيرها، ومات عبد الله بن جدعان كافرًا، ولا أدري إن كان معاصرًا للأحداث، أم مات قبل الإسلام وهذه مولاة من ميراثه، وفي رواية أن التي كانت تسمع سباب حمزة هي زوجة حمزة بن عبد المطلب.
[3] سمع حمزة عن الإسلام كثيرًا، بل هو من أوائل من سمع، فهو من الأقربين الذين دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للإسلام منذ ثلاث سنوات على الأقل، ولكن لم يُفْتَح قلبه حتى هذه اللحظة، ولعله كان ملهيًّا في لهوه، فقد كان من فرسان قريش المعدودين، وكان من المغرمين بالقنص، ويقضي في ذلك الأوقات الطوال، ويعود لمكة ليحكي مغامراته! ومن المهم أيضًا أن ندرك أن حمزة كان من أقرب الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أخوه في الرضاعة! فقد تزوَّج عبد الله أبو الرسول صلى الله عليه وسلم من آمنة بنت وهب، وتزوَّج عبد المطلب أبو عبد الله في الساعة نفسها من بنت عمِّ آمنة، وهي هالة بنت أهيب، فأنجب عبدُ الله رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وأنجب عبدُ المطَّلب حمزةَ، وأرضعتهما ثويبة مولاة أبي لهب، فهما أخوان في الرضاعة، متقاربان في العمر.
[4] وعند ابن هشام والطبري أن حمزة قال لأبي جهل بعد أن ضربه: «أَتَشْتِمُهُ وَأَنَا عَلَى دِينِهِ أَقُولُ مَا يَقُولُ؟ فَرُدَّ ذَلِكَ عَلَيَّ إِنِ اسْتَطَعْتُ». لم يكن حمزة يريد الإسلام حقًّا، ولم يأت من جلسة يستمع فيها إلى القرآن، أو من خلوة يتفكَّر فيها في الدين، إنما عاد من قنص وصيد، ولكنه أسلم حميَّةً لقبيلته وابن أخيه، وكذلك نكاية في أبي جهل وقومه بني مخزوم! وصرَّح مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ في رواية الطبراني: كَانَ إِسْلامُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَحِمَهُ اللهُ حَمِيَّةً.
[5] من المحتمل أن يكون أحد الرواة، أو يكون ذلك تصحيفًا لكلمة شِعْر.
[6] وفي رواية قَالَ: أَدْرَكَنِي النّدَمُ عَلَى فِرَاقِ دِينِ آبَائِي وَقَوْمِي، وَبِتّ مِنْ الشّكّ فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ لَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمِ ثُمّ أَتَيْت الْكَعْبَةَ، وَتَضَرّعْت إلَى اللهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَشْرَحَ صَدْرِي لِلْحَقّ وَيُذْهِبَ عَنّي الرّيْبَ فَمَا اسْتَتْمَمْتُ دُعَائِي حَتّى زَاحَ عَنّي الْبَاطِلُ وَامْتَلَأَ قَلْبِي يَقِينًا - أَوْ كَمَا قَالَ - فَغَدَوْت إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْته بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِي.
[7] الحاكم في المستدرك (4878).
التعليقات
إرسال تعليقك