ملخص المقال
كان الإمام مالك بن أنس من أصول عربية من اليمن، وهو من أسرة علمية، وقد حفَّزاه أبوه وأمه على العلم كلٌّ بطريقته.
لا أعتقد أن هناك طفلًا بذل جهدًا في تحصيل العلم ك الإمام مالك في طفولته، ولو قلنا إنها أعجب طفولة في التاريخ لم نكن مبالغين.
أصل الإمام مالك وتاريخ مولده:
هو مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث القحطاني، منبته مختلف تمامًا عن أبي حنيفة، فهو من أصول عربية من اليمن، بينما أبو حنيفة من أصول فارسية، وهو من أسرة علمية بينما كان أبو حنيفة من أسرة تعمل بالتجارة، لكن المحصِّلة واحدة، وهو اهتمام كلتا الأسرتين بابنهما، وهذا سبب رئيس لخروج العلماء.
قدم مالك بن أبي عامر (جد الإمام مالك) إلى المدينة متظلِّمًا من بعض ولاة اليمن، ثم حالف قبيلة بني تيم وهي قبيلة أبي بكر وطلحة بن عبيد الله، وكان جده مالك من كبار التابعين، ومن رواة الحديث، وقد روى عن عمر وعثمان وطلحة وعائشة، وهو واحد من الذين حملوا نعش عثمان حين مقتله.
كان والد الإمام مالك (وهو ليس الصحابي أنس بن مالك) نبالًا وكان من العلماء ورواة الحديث أبضًا، كذلك كان أعمام مالك كلهم من أهل العلم: وهم أويس ونافع والربيع، وقد وُلد مالك عام 93 هجرية وقد كان أصغر من أبي حنيفة ب13 سنة، فكان معاصرًا له.
كان الإمام مالك في بدء طفولته منشغلًا بأمرين غريبين وهم: الحَمَام، والغناء! وقد حفَّزاه أبوه وأمه على العلم؛ كلٌّ بطريقته: حيث كان أبوه يحفزه على العلم: بغلظة نسبيَّا، وقد وصف الإمام مالك ذلك بقوله: كان لي أخ (النضر) في سن ابن شهاب الزهري، فألقى علينا أبي مسألة فأصاب وأخطأتُ، فقال لي أبي: ألهتك الحمام عن طلب العلم. يقول الإمام: فغضبتُ لما قال لي أبي هذه الكلمة، وانقطعت (أي تفرغت لطلب العلم) عند ابن هرمز سبع سنين..». وقد كان مالك يُعرَف بأخيه فيقال أخو النضر ثم صار أخوه يعرف به!
أمَّا أمه وهي عالية بنت شريك الأزدية فقد صرفته عن الغناء في رقَّة ولطف، يقول الإمام: «نشأتُ وأنا غلام، فأعجبني الأخذ عن المغنين، فقالت أمي: يا بني، إن المغني إذا كان قبيح الوجه لم يُلتَفَت إلى غنائه؛ فدع الغناء واطلب الفقه. فتركت المغنين وتبعت الفقهاء، فبلغ الله بي ما ترى».
وقد كان الإمام مالك وسيمًا ذا شقرة، وإنما أرادت أمُّه أن توحي إليه بما يصرفه عن عزمه، وألبسته ثياب العلم. قال مالك: فألبستني ثيابًا مشمرة، ووضعت الطويلة على رأسي -يعني القلنسوة الطويلة- وعمَّمتني فوقها، ثم قالت: اذهب فاكتب الآن! وقد اختارت له ربيعة الرأي، وقالت له: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه.
علماء أخذ عنهم الإمام مالك:
تعلم الإمام مالك على يد الكثير من العلماء وهم:
أولًا: عبد الرحمن بن هرمز: وكان من التابعين.. وروى عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وغيرهما، وهو من العلماء الكبار، وممن تخصَّصوا في قراءة القرآن، وقد كان مالك يطيل الوقوف بباب ابن هرمز ويقف ينتظر إلى أن يشعر أهل البيت أن هناك حركة عند الباب، فيقول ابن هرمز لجارية عنده: من بالباب؟ فتقول: ما ثم إلا ذاك الأشقر.. فيقول: ادعيه فذاك عالم الناس! فكان يلبس ثيابًا محشوَّة يتقي البرد على باب دار بن هرمز، يقول مالك: وانقطعت إلى ابن هرمز 7 سنين لم أخلطه بغيره، وكنت أجعل في كفي تمرًا وأناوله صبيانه، وأقول لهم: إن سألكم أحد عن الشيخ فقولوا: إنه مشغول، ويقول: وكنت آتي ابن هرمز بكرة فما أخرج من بيته حتى الليل.
ثانيًا: ربيعة بن عبد الرحمن: وهو المعروف بربيعة الرأي، وسُمِّي كذلك لكثرة ما يبديه من آراء فقهية في الأحاديث فقد كان يشبه مدرسة أبي حنيفة، واتبعه مالك في ذلك فترة ثم غير طريقته عند التقائه بالزهري، وربيعة هو الذي علم الإمام مالك الاعتماد على عمل أهل المدينة وتقديمه على حديث الآحاد. روى عنه أنه قال: "ألفٌ عن ألف أحبُّ إليَّ من واحدٍ عن واحد، فإن واحدًا عن واحد ينتزع السُّنَّة من أيديكم.
ثالثًا: مع ابن شهاب الزهري: يقول عمر بن عبد العزيز: "عليكم بابن شهاب، فإنكم لا تجدون أعلم بالسنة الماضية منه"، وقال مالك: كنا نأتي ابن شهاب في داره وكانت له عتبة حسنة كنا نجلس عليها نتدافع إذا دخلنا عليه، يقول مالك أيضًا: شهدت العيد، فقلت لنفسي: هذا يوم يخلو فيه ابن شهاب، فانصرفت من المصلى وجلست عند الباب، فسمعته يقول: انظري من بالباب؟ فنظرَتْ، فسمعتها تقول: مولاك الأشقر. قال: أدخليه. فدخلت، فقال: ما أراك انصرفت بعد إلى منزلك؟ قلت: لا. قال: هل أكلت شيئًا؟ قلت: لا. فتعجب الزهري وجاء بطعام، فقال: فاطعم. قلت: لا أريد الأكل. قال: فما تريد؟ قلت: تحدثني. فقال لي: هات. فأخرجت ألواحي، وبدأ يحدثني بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثني بأربعين حديثًا. فقلت: زدني. قال: حسبك. قلت: قد حفظتها. فتعجب وأمسك الألواح التي بيدي، وقال: حدِّث. فحدثته بها، فأعطاني الألواح، وقال: قم فأنت من أوعية العلم.
رابعًا: مع نافع مولى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: وكان من أئمة العلم، قال مالك: "كنت آتي نافعًا نصف النهار وما تظلني الشجرة من الشمس أتحين خروجه، فإذا خرج أتبعه كأني لم أره، ثم أتعرض له فأسلم عليه، ثم أتركه حتى إذا دخل المسجد دخلت عليه مرة ثانية فأقول: ما رأي ابن عمر في كذا وكذا؟ فيجيبني ثم أحبس عنه.. حتى كانت أخته تشفق عليه فتخبر أباها أنه يقف بباب نافع في حر الشمس ساعات، فيقول لها: إنه يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم!
خامسًا: مع جعفر الصادق: (ابن محمد الباقر): تعلَّم منه مالك توقير النبي صلى الله عليه وسلم، وتعلم منه التواضع وتوقير العلم، قال مالك: كان كثير المزاح والتبسم، فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اخضرَّ واصفرَّ، ولقد اختلفت إليه زمانًا فما رأيته إلا على ثلاث خصال: إما مصليًّا، وإما صائمًا، وإما يقرأ القرآن ما رأيته قط يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة، ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء العبَّاد الزهَّاد الذين يخشون الله، وما أتيته قط إلا ويخرج الوسادة من تحته ويجعلها تحتي!».
سادسًا: تابعون لم يأخذ عنهم: قال مالك: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، لقد أدركت سبعين ممن يقولون: قال فلان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذه الأساطين، وأشار إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أخذت عنهم، وإن أحدهم لو أؤتمن على بيت مال لكان به أمينًا، إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن، وقدم علينا الزهري فنزدحم على بابه"!
سابعًا: محمد بن المنكدر: تعلَّم منه مالك الزهد، يقول عنه الإمام: كنت إذا وجدت في قلبي قسوةً آتي ابن المنكدر فأنظر إليه، فأتعظ أيامًا![1].
[1] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك