ملخص المقال
تُعد قيمة الإمام مالك كعالم ليس كأي عالم، إنما يفوق العلماء بمسافة
تُعد قيمة الإمام مالك كعالم ليس كأي عالم، إنما يفوق العلماء بمسافة يقول سفيان بن عيينة عندما بلغه خبر وفاته: ما ترك على الأرض مثله، وقال الشافعي: إذا ذكر العلماء فمالك النجم، وقال عبد الرحمن بن مهدي، وهو من كبار علماء الحديث، ومن تلاميذ مالك، ومن أورع العلماء وأزهدهم: "لم يبق على وجه الأرض آمن على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من مالك"، وقال ابن المبارك: لو قيل لي اختر للأمة إمامًا اخترت لها مالكًا، وقال يحيى بن سعيد القطان وهو أمير المؤمنين في الحديث ما في القوم أصح حديثًا من مالك.
أعجوبة المتواضعين:
كان الإمام مالك أعجوبة المتواضعين، لا يرى مجال تفوُّقه أعظم المجالات، أو على الأقل لا يُصَرِّح بذلك كتب له عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعُمَرِيَّ الْعَابِدَ[1] يَحُضُّهُ إِلَى الِانْفِرَادِ وَالْعَمَلِ وَيَرْغَبُ بِهِ عَنِ الِاجْتِمَاعِ إِلَيْهِ فِي الْعِلْمِ، يقول ابن حبان: عبد الله من أزهد أهل زمانه، وأكثرهم تخليا للعبادة، وأكثرهم مواظبة عليها، وما له كثير حديث يرجع إليه، وروى عنه سفيان بن عيينة فَكَتَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَسَّمَ الْأَعْمَالَ كَمَا قَسَّمَ الْأَرْزَاقَ فَرُبَّ رَجُلٍ فُتِحَ لَهُ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ فِي الصَّوْمِ وَآخَرَ فُتِحَ لَهُ فِي الصَّدَقَةِ وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ فِي الصِّيَامِ وَآخَرَ فُتِحَ لَهُ فِي الْجِهَادِ وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ فِي الصَّلَاةِ وَنَشْرُ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمُهُ مِنْ أَفْضَلِ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَقَدْ رَضِيتُ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ لِي فِيهِ مِنْ ذَلِكَ وَمَا أَظُنُّ مَا أَنَا فِيهِ بِدُونِ مَا أَنْتَ فِيهِ وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ كِلَانَا عَلَى خَيْرٍ وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أَنْ يَرْضَى بِمَا قُسِّمَ لَهُ وَالسَّلَامُ».
قال الذهبي: «قُلْتُ: مَا أَحْسَنَ مَا جَاوَبَ الْعُمَرِيَّ عَلَيْهِ بِسَابِقِ مَشِيئَةِ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ، وَلَمْ يُفَضِّلْ طَرِيقَتَهُ فِي الْعِلْمِ عَلَى طَرِيقَةِ الْعُمَرِيِّ فِي التَّأَلُّهِ وَالزُّهْدِ»، وعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فِيمَا يَعْمَلُ العَامِلُونَ؟ (وفي رواية مسلم: قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَعُلِمَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنْ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ قِيلَ: فَفِيمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟) قَالَ: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»[2]، وروى الترمذي عَنْ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ، قَالَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالآخَرُ عَالِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ»[3].
ثانيًا: يتحرج من الفتوى:
قال: مَا شَيْءٌ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ أَنْ أُسْأَلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْقَطْعُ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَلَقَدْ أَدْرَكْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ بِبَلَدِنَا وَإِنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ كَأَنَّ الْمَوْتَ أَشْرَفَ عَلَيْهِ، وَرَأَيْتُ أَهْلَ زَمَانِنَا هَذَا يَشْتَهُونَ الْكَلَامَ فِيهِ وَالْفُتْيَا، وَلَوْ وَقَفُوا عَلَى مَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ غَدًا لَقَلَّلُوا مِنْ هَذَا، وَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعَلِيًّا وَعَامَّةَ خِيَارِ الصَّحَابَةِ كَانَتْ تَرِدُ عَلَيْهِمُ الْمَسَائِلُ وَهُمْ خَيْرُ الْقَرْنِ الَّذِي بُعِثَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانُوا يَجْمَعُونَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْأَلُونَ، ثُمَّ حِينَئِذٍ يُفْتُونَ فِيهَا، وَأَهْلُ زَمَانِنَا هَذَا قَدْ صَارَ فَخْرُهُمُ الْفُتْيَا؛ فَبِقَدْرِ ذَلِكَ يُفْتَحُ لَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ".
يعلم مالك أن توفيق الله له راجع إلى الإخلاص، ويعلم أيضًا أنه مسؤول عن الفتوى: فَكَانَ يَقُول: مَنْ أجَاب فِي مَسْأَلَة فَيَنْبَغِي من قبل أَن يُجيب فِيهَا أَن يعرض نَفسه على الْجنَّة وَالنَّار وَكَيف يكون خلَاصه فِي الْآخِرَة ثمَّ يُجيب فِيهَا.
ثالثُا: لا يتحرَّج أن يقول: لا أعلم:
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: سَأَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَغْرِبِ مَالِكَ عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ: «لَا أَدْرِي»، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ: تَقُولُ لَا أَدْرِي؟ قَالَ: «نَعَمْ، فَبَلِّغُ مَنْ وَرَاءَكَ أَنِّي لَا أَدْرِي»، وقال الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ: شَهِدْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ سُئِلَ عَنْ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً، فَقَالَ فِي اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ مِنْهَا: لَا أَدْرِي، وسُئِلَ فِي مَسْأَلَة فَقَالَ: لَا أَدْرِي. فَقيل لَهُ: إِنَّهَا مَسْأَلَة خَفِيفَة سهلة فَغَضب. وَقَالَ: لَيْسَ فِي الْعلم شَيْء خَفِيف؛ أما سَمِعت قَوْله جلّ ثَنَاؤُهُ: {إِنَّا سنلقي عَلَيْك قولا ثقيلا}.
هذا أحد الفوارق الكبرى بين منهج مالك ومنهج أبي حنيفة؛ حيث كان مالك يقول: لا أدري لأن ليس بين يديه حديث في المسألة، ولا نقل عن صحابي، ولا مرَّت المسألة على أهل المدينة، بينما كان أبو حنيفة قادرًا على القياس على بعض الأحاديث، فحلَّ الكثير من القضايا المعضلة، وتورَّع مالك عن الإدلاء برأيه فيها.
ولقد كان مالك يعمل بطريقة أبي حنيفة عندما كان يتعلَّم على يد ربيعة الرأي، فلما تعلَّم على يد الزهري غيَّر من طريقته إلى التمسُّك بالحديث المباشر، هذا الفرق جعل القانون المبني على المذهب الحنفي أكثر مرونة وقدرة على التطبيق في عموم الدولة، وذلك لمواجهة المشكلات المتنوعة، وهو الذي دعا أسد بن الفرات للمزج بين المذهب المالكي، والمذهب الحنفي.
من الإنصاف أن نقول أيضًا أمرين:
الأول: قاس مالك في بعض المسائل لكنه لم يكثر من ذلك.
الثاني: كان مالك -بشهادة المعاصرين له- قادرًا من الناحية العقلية على القياس، لكنه كان يتورَّع عن ذلك مخافة الفتوى بغير تحقُّق، ولسان حاله يقول الأفضل ألا تحل المسألة الآن على أن أقوم بحلها على وجه مخطئ، وينتشر هذا الخطأ، وأكون أنا سببًا في نشره، فلعل الله يحدث في المستقبل أمرًا.
رابعًا: لا يُحْرِج أستاذه:
جلس ابن شهاب وربيعة ومالك، فألقى ابن شهاب مسألة فأجاب فيها ربيعة، وصمت مالك. فقال له ابن شهاب: لم لا تجيب قال قد أجاب الأستاذ أو نحوه. فقال ابن شهاب: ما نفترق حتى تجيب. فأجاب بخلاف جواب ربيعة. فقال ابن شهاب ارجعوا بنا إلى قول مالك[4].
[1] (ابن حفيد عبد الله بن عمر بن الخطاب)
[2] البخاري (7112)، ومسلم (2649).
[3] الترمذي: كتاب العلم عن رسول الله صلى الله عليه و سلم، باب ما جاء في فضل الفقة على العبادة (2685).
[4] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك