ملخص المقال
لم يكتف أحمد بن حنبل بعلم علماء العاصمة بغداد، ولا بعلم الزائرين لها؛ إنما سعى إلى جمع الحديث النبوي من العلماء في الأمصار المختلفة.
ولد الإمام أحمد بن حنبل في بغداد، ولكن بغداد في هذه المرحلة، مع كونها العاصمة، لم تكن مدينة العلم الأولى في العراق؛ لأنها حديثة نسبيًّا، وكانت تسبقها وتفوقها علمًا في هذه المرحلة التاريخية الكوفة والبصرة، فالكوفة هي بلد علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود، ثم التابعين بعدهم، والبصرة هي بلد أنس بن مالك، ثم التابعين من بعده، ففيهما العلم والفقه وأتباع التابعين.
هذا بالنسبة للعراق، أما العلم الشرعي بشكل عام فكان موجودًا في بلاد كثيرة متفرقة؛ أهمها المدينة، ومكة، بالإضافة إلى صنعاء، ودمشق، والفسطاط، لم يكتف أحمد بن حنبل بعلم معلمه هشيم بن بشير على غزارته، ولا بعلم علماء العاصمة بغداد، ولا بعلم الزائرين لها؛ إنما سعى إلى جمع الحديث النبوي من العلماء في الأمصار المختلفة..
ولضيق ذات اليد فإنه سعى إلى ذلك أولًا في العراق، وقد بدأ ذلك أولًا عام 186هـ وكان عمره 22 سنة، واللافت للنظر أن الإمام أحمد لم يكن يأخذ من هؤلاء الحديث النبوي فقط، ولا الأحكام الشرعية وحدها، إنما كان يأخذ منهم السلوك، والأخلاق، وطرق التعامل مع الأمور؛ وهي أمور لا تقل أهمية عن العلوم الشرعية، لأنها التطبيق العملي لها.
رحلة أحمد بن حنبل إلى البصرة:
رحل أحمد بن حنبل إلى البصرة[1] عام 186هـ في طلب العلم وتلقى على العلم يد إسماعيل ابن عُلَيَّة[2]، وقد قال عنه أحمد بن حنبل: «فاتني مالك، فأخلف الله عليّ سفيان بن عيينة، وفاتني حماد بن زيد، فأخلف الله عليّ إسماعيل ابن علية»، وقد أخذ عنه الإمام أحمد الاهتمام بدقة الحفظ: «اجتمع حفاظ أهل البصرة، فقال أهل الكوفة لأهل البصرة: نَحُّوا عنا إسماعيل وهاتوا من شئتم».
أيضًا أخذ الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي الذي كان من كبار علماء الحديث والفقه، وكان في مستوى يحيى بن سعيد القطان، وقد سُئل عنه الإمام أحمد عن فقهه فقال: "كان يتوسع في الفقه، كان أوسع فيه من يَحْيَى (أي يحيى بن سعيد)، كان يَحْيَى يميل إلى قول الكوفيين، وكان عبد الرحمن يذهب إلى بعض مذاهب الحديث، وإلى رأي المدينيين». فضلًا عن أن عبد الرحمن بن مهدي كان من رواة الموطأ وهو تلميذ مالك، وكلُّ ذلك كان سببًا في تأثر أحمد بمدرسة الحديث.
كذلك أخذ الإمام أحمد يحيى بن سعيد القطان: إِمَامٌ بِلَا مُدَافَعَةٍ، ومن تلامذة مَالِكٍ، وَكَانَ الثَّوْرِيُّ يَتَعَجَّبُ مِنْ حِفْظِهِ، وكان يجلُّ أحمد جدًّا مع كونه شيخه، وهو الذي قال: «ما قَدِمَ عليَّ مثل هذين الرجلين، أَحمد بن حنبل، ويحيى بن مَعِين، وقال: ما قدم عليَّ من بغداد أَحبّ إِليَّ من أَحمد بن حنبل».
وكان متواضعًا، وقد أخذ ابن حنبل منه هذه الصفة، فكان لا يرى نفسه مهما عظَّمه الناس، وقد ذُكِر أمامه أَحمد بن حنبل بسوء فقال للمغتاب: «وَيْلَكَ يا سُليمان، أَما اتقيت الله! تَذكر حَبْرًا من أَحبار هذه الأُمة؟».
رحلة أحمد بن حنبل إلى الكوفة:
رحلة أحمد بن حنبل إلى الكوفة وتعلَّم من يحيى بن آدم[3] الذي كان فقيهًا إمامًا مقرئًا غزير العلم، سُئل عَنْهُ أبو داود فقال: يحيى واحد النَّاس، وتعلَّم ابن حنبل منه التواضع كما تعلَّمه من يحيى بن سعيد، وكان يحيى يُقدِّر الإمام أحمد ويُقدِّمه في العلم على نفسه مع أنَّه تلميذه وأخذ العلم عنه! «قَالَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه: سَمِعت يحيى بن آدم يَقُول: أَحْمد بن حَنْبَل إمامنا.
أيضًا تعلم أحمد بن حنبل من وكيع بن الجراح وهو إِمَامٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مُخَرَّجُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَارِفٌ بِالْحَدِيثِ حَافِظٌ رَوَى عَنْهُ أُسْتَاذُهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ». وهو شيخ الشافعي وأحمد كان مقدِّرًا جدًّا للإمام أحمد، فقال: «ما قَدم الكوفة مثل ذلك الفتى (يعني: أَحمد بن حنبل) ووصل الأمر إلى اتِّباعه في الجرح والتعديل؛ فقد قال إِبراهيم بن شماس: سأَلت وكيعًا عن خارجة بن مُصعب يُحدِّثنا عنه، فقال: لستُ أُحدث عنه، نهاني أَحمد بن حنبل أَن أُحدِّث عنه».
وكان أحمد شديد التأثر به في كلِّ شيء إلى الدرجة التي قال فيها محمد بن يونس: كان أشبه الناس بوكيع بن الجراح أحمد بن حنبل. وكان أحمد يمدح سلوكه إلى جوار علمه، فقد سأله عنه ابنه عبد الله، فقال له: ما رأيت أحدًا أوعى للعلم من وكيع ولا أشبه بأهل النسك منه!
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: كنتُ أسمع أبي كثيرًا يقول في دبر صلاته: اللهمَّ كما صنتَ وجهي عن السجود لغيرك، فصن وَجهي عن المسألة لغيرك. فقلتُ له: أسمعك تُكثر من هذا الدعاء، فعندك فيه أثر؟ قال: فقال لي: نَعم، كنتُ أسمع وَكيع بن الجراح كثيرًا يقول هذا في سُجوده».
رحلة أحمد بن حنبل إلى واسط:
وهناك تعلم أحمد بن حنبل من يزيد بن هارون الذي يُعد من كبار رجال الحديث والفقه، «قال خَلف بن سالم: كنا في مجلس يزيد بن هارون؛ فمزح يزيد مع مُستَمليه، فتنحنَح أَحمد بن حنبل، فَضرب يزيد بيده على جَبينه وقال: أَلا أَعلمتموني أَن أَحمد ها هنا حتى لا أَمزح"، وقال أحمد بن سِنان: ما رأَيتُ يزيد بن هارون لأَحدٍ أَشد تعظيمًا منه لأَحمد بن حنبل، ولا رأَيته أَكرم أَحدًا إِكرامه لأَحمد بن حنبل، وكان يُقعده إِلى جَنبه إِذا حدثنا، وكان يوقِّر أَحمد ابن حنبل ولا يُمازحه، ومَرض أَحمد بن حنبل، فَركب إِليه يزيد بن هارون وعاده». وأعظم ما أخذه عنه أحمد بن حنبل، أمران:
(أ) طول العبادة: قَالَ أَحْمَد بْن سنان: «ما رأينا عالِمًا قَط أحسن صلاة من يزيد بْن هارون يقوم كأنه أسطوانة، كَانَ يصلي بين المغرب والعشاء والظهر والعصر لَم يكن يَفتُر من صلاة الليل والنهار هُوَ وهشيم، جميعًا معروفين بطول الصّلاة في الليل والنهار». لذا قَالَ أحمد: «ما كَانَ أجمع أمر يزيد؛ صاحب صلاة حافظ متقن للحديث».
(ب) موقفه في خلق القرآن: «قال ابن أكثم: قال لنا المأمون: لولا مَكان يَزيد بن هارون، لأظهرتُ أن القرآن مَخلوق. فقال بعضُ جُلساءه: يا أمير المؤمنين، ومَن يَزيد حتى يكون يُتَّقى؟ قال: فقال: وَيحك! إني أخاف إن أظهرته فيرد علىَّ، فيختلف الناس وتَكون فِتنة، وأنا أكره الفِتنة، قال: فقال الرجل: فأنا أخبُرُ ذلك منه، فقال له: نعم. فخرج إلى واسط، فجاء إلى يزيد، فدخل عليه المسجد وجلس إليه، فقال له: يا أبا خالد، إن أمير المؤمنين يُقرئك السلام، ويقول لك: إني أُريدُ أن أظهر أن القرآن مخلوق، قال: فقال: كذبتَ على أمير المؤمنين، أمير المؤمنين لا يَحمل الناس على ما لا يعرفونه، فإن كنتُ صادقًا فاقعُد إلى المجلس، فإذا اجتَمع الناس فقُل. قال: فلمَّا أن كان الغَد اجتمع الناس، فقام فقال: يا أبا خالد -رضى الله عنك- إن أمير المؤمنين يُقرئك السلام، ويقول لك: إني أردتُ أن أظهر أن القرآن مخلوق، فما عندك في ذلك؟ قال: كذبتَ على أمير المؤمنين، أمير المؤمنين لا يحمل الناس على ما لا يعرفونه، وما لم يَقل به أحد. قال: فقدم، فقال: يا أمير المؤمنين كُنتَ أعلم، كان من القِصة كيتَ وكيتَ، فقال له: وَيحكَ تَلعَّبَ بك!».- ولم يُظهر المأمون (198-218هـ=813-833م) الفتنة إلا بعد موت يزيد عام 206هـ[4].
[1] رحل إلى البصر خمس رحلات وكان بعضها يمتد 6 شهور.
[2] هو إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مِقْسَمٍ، الإِمَامُ العَلاَّمَةُ الحَافِظُ، المَشْهُوْرُ بِابْنِ عُلَيَّةَ؛ وَهِيَ أُمُّهُ. ونسب إليها لعلمها ومكانتها في البصرة. وكان يتنكد من هذه النسبة.
[3] من مواليد 140هـ (أكبر من أحمد بن حنبل ب 34 سنة)
[4] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك