ملخص المقال
كيف اختلف زهد الإمام أحمد عن زهد الإمام مالك؟
سنة الاختلاف بين البشر:
قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118]. كان الإمام مالك زاهدًا، وكذلك كان الإمام أحمد بن حنبل، لكن كل منهما يرى الزهد من منظور مختلف: الإمام مالك كان يلبس فاخر الثياب، وقد يلبس طيلسانًا بخمسمائة دينار، ويحب أن يكون للعلماء هيئة حسنة، وينفق على العطور والبخور، وشبَّه بعض تلامذته هيئته بهيئة الملوك.
الإمام أحمد كان على العكس من ذلك تمامًا، فهو يرى اللباس البسيط، والاقتصاد في المعيشة، وحياة الفقراء، أبلغ في الوصول إلى معنى الزهد. هو لا يمانع من أن يمتلك الرجل المال الكثير، لكنه يضع معايير تجعل كثرة المال مضيعة للزهد. سُئِلَ الإمام أحمد عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ مَعَهُ أَلْفُ دِينَارٍ. هَلْ يَكُونُ زَاهِدًا؟ فَقَالَ: نَعَمْ. عَلَى شَرِيطَةِ أَنْ لَا يَفْرَحَ إِذَا زَادَتْ، وَلَا يَحْزَنَ إِذَا نَقَصَتْ.
تعريف الزهد في كلام أحمد:
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا قِصَرُ الْأَمَلِ، والإياس مما في أيدي الناس، له كتاب في 400 صفحة عن الزهد، جمع فيه بعض الأحاديث في زهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعض الرسل، ثم زهد الخلفاء الراشدين وبعض الصحابة والتابعين.
يعيش حياة الفقر، ويعلِّمها أصحابه وتلامذته:
قال إِسْحَاقُ بنُ هَانِئٍ، قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللهِ: بَكِّرْ حَتَّى نُعَارِضَ بشَيْءٍ مِنَ الزُّهْدِ. فَبَكَّرْتُ إِلَيْهِ، وَقُلْتُ لأُمِّ وَلَدِهِ: أَعطِينِي حَصِيرًا وَمِخَدَّةً. وَبَسَطتُ فِي الدِّهْلِيْزِ، فَخَرَجَ أَبُو عَبْدِ اللهِ، وَمَعَهُ الكُتُبُ وَالمِحْبرَةُ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقُلْتُ: لِنَجْلِسَ عَلَيْهِ. فَقَالَ: ارفَعْهُ، الزُّهْدُ لاَ يَحْسُنُ إِلاَّ بِالزُّهْدِ. فَرَفَعْتُه، وَجَلَسَ عَلَى التُّرَابِ.
كان منبهرًا بأمثلة الزهاد الفقراء أو الذين تركوا الدنيا:
قال أبو بكر المَرُّوذي: سمعتُ أَحمد بن حنبل، يقول: ما أعدل بالفقر شيئًا، أتدري الصبر على الفقر أي شيء هو؟ قد رأيتُ قومًا صالحين: لقد رأيتُ عبد اللَّه بن إدريس [1]وعليه جُبَّة لبود، وقد أتى عليه السنون والدهور، ولقد رأيتُ أبا داود الحفري وعليه جبة مخرَّقة، قد خرج القطن منها، يصلي بين المغرب والعشاء وهو يترجَّح من الجوع، ورأيتُ أيوب بن النجار بمكة وقد خرج مما كان فيه ومعه رشاء يستقي به في مكة، وقد خرج من كل ما يملكه، وكان من العابدين، وكان في دنيا فتركها في يدي يحيى القطان، وقد رأيتُ ابن بَجالة العابد وكنتُ أسمع صوت خفه في الطواف بالليل، ولقد كان في المسجد رجل يقال له: العَرَفي، يقوم من أول الليل إلى الصباح يبكي. قال: فاشتهيتُ النظر إليه، فإذا هو شاب مُصفَرٌّ، ولقد رأيتُ حسينًا الجُعْفيّ، وكان يُشَبّه بالراهب، ما رأيتُ بالكوفة أفضل من حُسيْن الجُعْفِيّ، وسعيد بن عامر بالبصرة.
انعكس ذلك على هيئة أحمد، وبيته، وطعامه، وعمله، وعلاقاته مع الناس:
لباسه:
قال المروذي، قال: أراد أبو عبد الله أن يرقع قميصه فلم يكن عنده رقعة، فقال: أرقعه من إزاري، فقطعنا من إزاره فرقعناه، ولقد احتاج غير مرة إلى خرق فكان يقطع من إزاره، وأعطاني خفًّا له لأرُمّه قد لبسه سبع عشرة سنة، وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ: مَا أَعْلَمُ أَنِّي رَأَيْت أَحَدًا أَنْظَفَ ثَوْبًا وَلَا أَشَدَّ تَعَاهُدًا لِنَفْسِهِ فِي شَارِبِهِ وَشَعْرِ رَأْسِهِ وَبَدَنِهِ وَلَا أَنْقَى ثَوْبًا، وَأَشَدَّهُ بَيَاضًا مِنَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
بيته:
قال عَلِيُّ بنُ المَدِيْنِيِّ: دَخَلْتُ مَنْزِلَ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ، فَمَا شَبَّهْتُهُ إِلَاّ بِمَا وُصِفَ مِنْ بَيْتِ سُوَيْدِ بنِ غَفَلَةَ[2]، مِنْ زُهْدِهِ وَتَوَاضُعِهِ، وَقَالَ المَيْمُوْنِيُّ: كَانَ مَنْزِلُ أَبِي عَبْدِ اللهِ منزلًا ضَيِّقًا صَغِيْرًا، وَينَامُ فِي الحَرِّ فِي أَسْفَلِهِ.
وقال حسن بن سيار: دخلت إلى أحمد بن حنبل وأنا صبي مع أستاذي نجصص له بيتًا، فقال له أحمد: جصصه باليد ولا تمسحه بالمالج؛ ثم فرشناه بالطوابيق، فلما فرغنا استحسنه وقال: هذا نظيف يصلي عليه الرجل، وليس فيه بارِيَّةٍ[3] ولا حصير[4]، ودفع إليّ كفّ تمرٍ.
مأكله:
قال صالح بن أحمد: رُبَّمَا رَأَيْتُ أَبِي يَأْخُذُ الكِسَرَ، فينفض الغبارَ عَنْهَا، ثم يُصيِّرُهَا فِي قَصعَةٍ، وَيَصُبُّ عَلَيْهَا مَاءً، حتى تبتل، ثُمَّ يَأْكُلُهَا بِالملحِ، وَمَا رَأَيْتهُ قط اشْتَرَى رُمَّانًا وَلَا سَفَرْجلاً[5]وَلَا شَيْئاً مِنَ الفَاكهَةِ، إِلَاّ أَنْ تَكُوْنَ بطِّيخَةً فَيَأكُلهَا بِخُبزٍ، أو عِنبًا، أو تَمْرًا، فأما غير ذلك فما رأيته قط اشتراه، ورُبَّمَا خُبِزَ لَهُ، فَيجعلُ فِي فَخَّارَةٍ عَدسًا وَشَحمًا وَتَمَرَاتٍ شِهْريز، وَكَانَ كثيرًا ما يَأْتَدِمُ بِالخلِّ، وكان يُشترى له شحم بدرهم، فيأكل منه شهرًا، فلما قدم من عند المتوكل أدمن الصوم، وجعل لا يأكل الدسم؛ فتوهمت أنه كان جعل على نفسه إن سلم أن يفعل ذلك.
وقال أبو بكر المروذي: قال لي النيسابوري صاحب إسحاق بن إبراهيم: قال لي الأمير: إذا جاءوا بإفطاره فأرنيه. قال: فجاءوا برغيفين خبزًا وخيارة؛ فأريته الأمير فقال: هذا لا يُجيبنا إذا كان هذا يقنعه.
مصدر رزقه:
كان مصدر رزق أحمد بن حنبل تأجير بعض العقارات البسيطة التي تركها له والده، وأحيانًا كان يأخذ بقايا الزرع: قال أحمد: خرجتُ إلى الثَّغر على قَدمي فالتقطنا، وقد رأيتُ قومًا يُفسدون مزارع الناس، لا ينبغي لأحد أن يدخل مَزرعة رجل إلا بإذنه، وايضًا عن طريق نسخ الكتب كما كان ينسج أحيانًا: قال إسحاق بن راهويه: كنت أنا وأحمد باليمن عند عبد الرزّاق، وكنت أنا فوق الغرفة وهو أسفل، قال: فاطلعت على أن نفقته فنيتْ، فعرضتُ عليه فامتنع، فقلت: إن شئت قرضًا، وإن شئت صلة، فأَبَى، فنظرت فإذا هو ينسج التكك ويبيع وينفق.
كان أحمد بن حنبل أيضًا يقترض ويقوم بالسداد: قال حَتَكُ الْمَرْوَزِيِّ: كَانَ اسْتَقْرَضَ مِنِّي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَجَاءَنِي بِهَا فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا دَفَعْتُهَا وَأَنَا أَنْوِي أَنْ آخُذَهَا مِنْكَ فَقَالَ: وَأَنَا مَا أَخَذْتُهَا إِلَّا وَأَنَا أَنْوِي أَنْ أَرُدَّهَا عَلَيْكَ، وقال إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الْأَنْصَارِيُّ: «دَفَعَ إِلَيَّ الْمَأْمُونُ مَالًا أَقْسِمُهُ عَلَى أَصْحَابِ الْحَدِيثِ؛ فَإِنَّ فِيهِمْ ضُعَفَاءَ، فَمَا بَقِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا أَخَذَ، إِلَّا أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فَإِنَّهُ أَبَى». وقد كان أحمد بن حنبل يرفض الولايات: قال أبو بكر الأثرم، قال: أُخبِرْتُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ لأَبِي عَبْدِ اللهِ: يا أبا عبد الله، إِنَّ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ -يَعْنِي مُحَمَّدًا- سَأَلَنِي أَنَّ أَلتَمِسَ لَهُ قَاضِيًا لِليَمَنِ، وَأَنْت تُحِبُّ الخُرُوجَ إِلَى عَبْدِ الرَّزَّاقِ، فَقَدْ نِلتَ حَاجَتَكَ، وَتَقْضِي بِالْحَقِّ، وتنالُ من عبد الرزاق ما تُريد. فقال أبو عبد الله للشافعي: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، إِنْ سَمِعْتُ هَذَا مِنْكَ ثَانيَةً، لَمْ تَرَنِي عِنْدَكَ. فَظننتُ أَنَّهُ كَانَ لأَبِي عَبْدِ اللهِ في ذلك الوقتِ ثلاثونَ -أو سبع وعِشرون- سَنة.
يعتبر أحمد الولاية للظالمين معاونة لهم؛ بينما يرى الشافعي أن الولاية لعادل في حكومة الظالمين هي سعي لإقامة العدل في مكان ولو كان محدودًا، وقال أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ التُّسْتَرِيُ: ذَكَرُوا أَنَّ أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ أَتَى عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مَا طَعِمَ فِيْهَا، فَبَعَثَ إِلَى صَدِيْقٍ لَهُ، فَاقتَرضَ مِنْهُ دَقِيْقاً، فَجَهَّزوهُ بِسُرعَةٍ، فَقَالَ: كَيْفَ ذَا؟ قَالُوا: تَنُّورُ صَالِحٍ مُسْجَرٌ، فَخَبَرْنَا فِيْهِ. فَقَالَ: ارفَعُوا. وَأَمَرَ بِسَدِّ بَابٍ بَينَهُ وَبَيْنَ صَالِحٍ. قُلْتُ (الذهبي): لِكَوْنِهِ أَخَذَ جَائِزَةَ المُتَوَكِّلِ. وقَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ بن حنبل: دَخَلَ عَلَيَّ أَبِي رحمه الله فِي مَرَضِي يَعُوْدُنِي، فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ، عِنْدَنَا شَيْءٌ قد بقي مِمَّا كَانَ يَبُرُّنَا بِهِ المُتَوَكِّلُ، أَفَأَحُجُّ مِنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَإذَا كَانَ هَذَا عِنْدَكَ هَكَذَا، فَلِمَ لَمْ تَأْخُذْ؟ قَالَ: يا بني، لَيْسَ هُوَ عِنْدِي حَرَامٌ، وَلَكِنِّي تَنَزَّهْتُ عَنْهُ.
يردُّ الهدية:
قال المروذي: رأيت أبا عبد اللَّه وقد أهدى إليه إنسان ماءَ زمزم فأرسل إليه سويقًا وسكرًا، وأمرني أن أشتري لإنسان هدية بقريب من خمسة دراهم وقال: اذهب إلى صبيانه فإنه قد وهب لسعيد شيئًا، وكان يرفض الهدية الكبيرة، ويقول: نحن في غِنًى وسعة. دعنا نكن أعزاءَ[6].
[1] بن يزيد الأودي، من رواة الأحاديث الثقات الزهاد، ومن الشيوخ الكبار لأحمد، ولد سنة 115هـ، وكانت بينه وبين مالك صداقة
[2] سُوَيْدُ بنُ غَفَلَةَ من كبار التابعين، توفي سنة 80هـ.
[3] البارِيَّة: الحصير الخشن.
[4] ولا حصير: الحصير أعم لكل ما فُرش.
[5] السفرجل: ثمر كالتفاح
[6] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك