الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
تعتبر دار خاصكي معلمًا مهمًّا من المعالم الحضارية لمدينة القدس، وهذا المعلم كتب الله له البقاء ستة قرون.
مدينة القدس هي ثالث أعظم مدينة في الإسلام، فبها المسجد الأقصى؛ أولى القبلتين، ومسرى رسول الله ﷺ، وأحد المساجد الثلاثة التي تُشَدُّ إليها الرِّحال، والمسجد الذي تعدل الصلاة فيه خمسمائة صلاة، وتُعرف بأسماء أخرى مهمة مثل: بيت المقدس، وفي التوراة أورشليم، ومن أسمائها التاريخية: "مدينة العدل" و"مدينة السلام" و"إيلياء" الذي ورد في العهدة العمرية.
لمدينة القدس أهمية دينية كبرى عند المسلمين، والنصارى، واليهود، ولذلك تناوبت على حكمها حضارات العالم كله، فحكمها داود وسليمان عليهما السلام، وحكمها "بختنصر" الفارسي، والإسكندر المقدوني، والبطالمة، والرومان حتى فتحها المسلمون على يد عمر بن الخطاب عام 15هـ، 636م، وقد ازدهرت مدينة القدس في عهد الأمويين، وكذا العباسيين، فالطولونيين، فالإخشيديين، فالعبيديين، فالسلاجقة، ثم احتلها الصليبيون، حتى حرَّرها صلاح الدين، وعادت للصليبيين فترة وجيزة، ثم استردَّها نجم الدين أيوب، وحكمها من بعده المماليك، فالعثمانيون، إلى أن سقطت تحت الاحتلال الإنجليزي عام 1917 ثم اليهودي عامي 1948، و1967م ، ونسأل الله لها ولعامة الأراضي الإسلامية الحرية والمجد.
ولمدينة القدس معالم حضارية كثيرة، واخترت منها معلمًا مهمًّا كتب الله له البقاء ستة قرون حتى الآن، وهو من أعمال البرِّ العظيمة، ولعل طول بقائه يدلُّ على صلاحية نفس مؤسِّسه! والمعلم هو دار موقوفة لإطعام المحتاجين، وهي دار خاصكي، والمؤسِّسة له هي خُرَّم سلطان زوجة السلطان العثماني سليمان القانوني، واسمها القديم قبل إسلامها روكسلانا، وهي من الشخصيات الجدلية في التاريخ، وقد نُسِجت حولها قصص كثيرة، واشتُهر أمرها بعد بعض الأعمال الدرامية الفنيَّة، والواقع أنها امرأة صالحة، ولا يقال في حقِّها أمر مشين عن طريق الرجم بالغيب، وتُعلِّمنا في هذا الموقف الإبداع في استمرار العمل الصالح بعد الموت بعقود وقرون.
أوقفت زوجة السلطان دار خَاصَكِي لإطعام المحتاجين في القدس الشريف في عام 959هـ= 1552م، يتألف هذا المجمع من جامع وخان للقوافل مع اسطبل للدواب، ودار لإطعام المحتاجين ملحق بها خمس وخمسون غرفة، وسلسلة من البنايات شملت المطبخ والفرن وبيت المونة ومخزن المعدات ومخزن الفحم وقاعة الأكل ودورات المياه، ودار خَاصَكِي عبارة عن قصر بنته سيدة من المماليك اسمها طنشق، وصار هذا البيت للعثمانيين بعد ضمِّ القدس، ووسَّعته خرَّم سلطان، خصَّصت أوقافًا للإنفاق عليه في خمسة سناجق من الشام، وبلغ عدد القرى والمزارع الموقوفة عليه 34 قرية ومزرعة، ما يقرب من نصفها في منطقة الرملة، ومن هذه القرى والمزارع أربع وقفها السلطان سليمان القانوني في ناحية صيدا تعزيرًا لوقف زوجته الأصلي، وقد كان عدد العاملين بالوقف عام 1557م 49 شخصًا، وقد كان لكل واحد منهم عمل وراتب محدد ونصيب من الطعام الذي يُطهى في مطبخ الوقف، وفي أوائل الخمسينيات من القرن 16 كان حساء الأرز والبرغل يوزعان صباحًا ومساءً مع رغيف الخبز على ما يقرب من 500 شخص، وكان الوزن المعياري المحدد لرغيف الخبز 90 درهمًا حوالي ربع كيلو وفي المساء كانت تقدم وجبة حساء البرغل، أما في المناسبات الخاصة فقد كانت الموائد العامرة تقام للجميع.
يذكر أحد الرحالة الفرنسيين أنطوان موریسون ما شاهده عام 1705م قائلًا: "لقد كان يُقدم كل يوم ولكل فقير يأتي إلى هناك حوالي نصف كيلو من الخبز بالإضافة إلى زيت الزيتون وصحن من الشوربة المطهوة مع بعض الخضروات والتي كانت تجهز في قدور عملاقة لم نر لها مثيلًا من قبلُ"، ويذكر أيضًا أن الطعام كان يُوزع في دار إطعام المحتاجين بشكل متساو للمسلمين والمسيحيين،
ابتداءً من عام ۱۹۲۰م وحتى يومنا هذا تحولت دار خَاصَكِي لإطعام المحتاجين إلى "دار الأيتام الإسلامية لتعليم المهن والمهارات"، وعلى الرغم من حدوث هذا التحول إلا أن توزيع الطعام قد استمر، وبعد ما يقرب من خمسة قرون لا نزال حتى اليوم نرى هذا الصرح واقفًا على قدميه، ولم تقتصر أعمال خُرَّم سلطان الخيرية على القدس فقط، حيث أنشأت أوقافًا كثيرة في إستانبول منها جامع وميضأة في آقسرای، وبجواره مطعمًا خيريًا "عمارت" ومدرسة ومستشفى، ومدرسة للصبيان، وفي أدرنة أنشأت عددًا كبيرًا من الأسبلة، وقصرًا للقوافل عند جسر نهر مريج، وقنوات لتوصيل المياه إلى أدرنة وجامعًا ومطعمًا خيريًّا.
كما ابتنت خُرَّم سلطان مؤسستين خيريتين في مكة المكرمة والمدينة المنورة لخدمة فقراء المسلمين وطلاب العلم في الحرمين الشريفين تتكون كل مؤسسة منهما من مطعم خيري لتقديم الطعام لفقراء المسلمين وطلاب العلم، ورباط لسکنی طلبة العلم 48 غرفة، فضلًا عن مسجد ومدرسة، وأوقفت على هاتين المؤسستين أوقافًا كثيرة للإنفاق عليهما، والاستمرار إلى هذا الوقت في نفع الوقف يثبت في رأيي النية الخالصة التي بارك فيها اللهُ إلى هذه الدرجة[1].
[1] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك