الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
مدينة سراييفو أسَّسها المسلمون العثمانيون في البوسنة بعد فتحها، وكان لها، ولا يزال، آثار كبيرة مهمة على جنوب شرق أوروبا بشكل عام.
مدينة سراييفو عاصمة البوسنة، وقد أسَّسها المسلمون العثمانيون في البوسنة بعد فتحها، وكان لها، ولا يزال، آثار كبيرة مهمة على جنوب شرق أوروبا بشكل عام، وعلى البوسنة بشكل خاص، فقد وصل العثمانيُّون إلى أوَّل أجزاء الأراضي البوسنيَّة عام (1386م=788هـ)، واستمرَّت عملية ضمِّ أراضي البوسنة للدولة حتى عام (1463م=868هـ) لتنضمَّ كلُّها تحت الحُكم العثماني المباشر، وكان هذا في عهد الأمير العظيم محمد الفاتح، فلم يفتح محمد الفاتح القسطنطينية فقط إنما فتح البوسنة كذلك، وهو الذي حوَّل الدولة العثمانية من دولة إلى إمبراطورية، والإمبراطورية تضم أعراقًا مختلفة، وأديان كثيرة، ولغات متعددة، وكان دخول البوسنة في الدولة أحد هذه العلامات.
من الأعمال المهمة التي قام بها الفاتح في البوسنة:
تهجير عدد من المسلمين للحياة في البوسنة لنقل طريقة المعيشة الإسلامية إلى أهلها، وهذا يُسْهِم في سرعة إسلامهم، الحرص على عدم إزعاج السكان الأصليين بالجيش العثماني الكبير، وهذا وذاك دفعه لإنشاء تجمعات للجيش والسكان الجدد خارج المدن الرئيسة في الإقليم، وهذا أدى إلى إنشاء المدن الإسلامية، ومنها سراييفو والتي ساهم في إنشائها بشكل مباشر الوالي العثماني الأول للبوسنة، وهو عيسى بك إسحاقوفيتش.
وقد أنشأ عيسى بك المدينة عن طريق عمل عدة أوقاف متفرِّقة، وحول هذه الأوقاف نشأت حركة معمار، وحركة سفر، وبالتالي عمرت المنطقة حتى صارت مدينة صغيرة، ثم طُوِّرَت بعد ذلك لمدينة كبيرة، من بين هذه الأوقاف ما يلي:
جامع باسم السلطان محمد الفاتح أنشأه في سنة 1457م، وحمَّامًا بقي حتى سنة 1889م، وجسرًا على نهر "ميلياتسكا"، وخان، وبيزستان (سوق مغطَّى) يحتوي على محلات كثيرة، وتكيَّة في قرية "بروداتس" المجاورة التي خُصِّصت لنزول "الفقراء والمـُسلمين من السادات والغزاة وأبناء السبيل" وتقديم الطعام لهم، وأوقف عليها العديد من الطواحين والكثير من الأراضي، وقد كُتبت الوقفية بالعربيَّة!
أخذت هذه النواة العُمرانية (الجامع - الحمَّام - السوق - التكيَّة) تكبر بسرعة، فنمى حيُّ جديد حول الجامع، وحيٌّ ثانٍ حول التكيَّة، وثالثٌ حول السراي، ثم ظهر تطوُّر جديد في النصف الأول من القرن العاشر الهجري على يد الوالي العثماني خسرو بك[1]، الذي يعتبر مؤسِّس سراييفو الحديثة، وكان ذلك بعد حوالي 70 سنة، فقد أوقف خسرو بك الكثير من المباني الجديدة لتطوير المدينة: ثلاث وقفيَّات لتعمير المدينة: الأولى سنة 1531م، والثانية سنة يناير 1537م، والثالثة نوفمبر 1537م، وعمل على تنشيط التجارة ونشوء كثيرٍ من الحرف بشكلٍ سريع، وأنشأ الجامع الكبير المعروف باسمه[2]، والذي لا يزال شامخًا في قلب سراييفو وجاء تحفة فنية.
أيضًا بنى مدرسة كبيرة على روح أمِّه، اشتهرت باسم المدرسة السلجوقية، كما بنى مكتبة في إطار المدرسة، ومع ازدياد عدد الكتب نُقلت إلى مبنى خاص لها في جوار الجامع ثم إلى مبنى أكبر في جوار جامع السلطان، والآن في مكان مدرسة الإناث، كذلك بني البزستان الذي لا يزال يستخدم إلى الآن مركزًا تجاريًّا، أيضًا بني طاشلي خان، وبنى التكية التي تقدم الوجبات المجانية، للمحتاجين في سراييفو وللعابرين فيها، وكانت تستهلك نصف الدخل الذي تدرّه أصول الوقف (138.220 ألف دهم)، كما بنى دار الضيافة (مسافر خانه)، التي كان ينزل فيها المسافرون أو العابرون لسراييفو.
وصف الرحَّالة العثماني الشهير أوليا چلبي لمدينة سراييفو:
زار الرحَّالة العثماني الشهير أوليا چلبي مدينة سراييفو عام 1660م، أي بعد 120 سنة من وفاة خسرو بك، وقد وصف المدينة قائلًا: تحتوي سراييفو على 600 حيٍّ سكني، و17000 منزل، و77 جامع و100 مسجد، والعديد من المدارس، و180 مكتب لتعليم الصبية، و47 تكية، و300 سبيل، و700 بئر، و5 حمامات، و3 (نزل للمسافرين والقوافل)، و23 خان، و1080 متجر، وبيزستان، و7 جسور على نهر "ميلياتسكا"، وكنيسة كاثوليكية، وكنيسة أرثوذكسية[3].
[1] خسرو بك: ولد في سرز (شمال اليونان)، حيث كان أبوه فرهاد بك حاكمًا لها، وهو ينتمي إلى أسرة معروفة في الهرسك، وأمُّه سلجوقة بنت السلطان بايزيد الثاني. وقد أرسلته أمه -بعد وفاة أبيه المبكرة- إلى جده السلطان ليعتني به في مدرسة البلاط، وعيِّن أميرًا على سنجق سمدرفو (صربيا) ثم البوسنة، وظهر نبوغه العسكري في عهد القانوني، وشارك في فتح بلغراد 1520م، وحصار فيينا الأول 1529م، والثاني 1532م، ما منحه لقب "الغازي" تقديرًا لشجاعته. وعُيِّن والي بلغراد 1533م، ثم البوسنة، وبقي على رأسها حتى وفاته في 18 يونيو 1541م، وقد توفي إثر إصابته في إحدى الغزوات مع الصرب في منطقة الجبل الأسود، حيث أوصى بدفنه في سراييفو التي أحبَّها، والتي وصلت في عهده إلى عصرها الذهبي.
[2] مصممه نجم أمير علي أستاذ معمار سنان.
[3] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك